الرئيسية تقارير مواضيعية “صرخات غير مسموعة”: الاعتقال التعسفي والتعذيب في “المناطق الآمنة” شمال سوريا

“صرخات غير مسموعة”: الاعتقال التعسفي والتعذيب في “المناطق الآمنة” شمال سوريا

وثّقت رابطة "تآزر" اعتقال 338 شخصاً (بينهم 8 أطفال و21 امرأة) في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض، خلال النصف الأول من عام 2024، على يدّ فصائل "الجيش الوطني السوري"، كما توّرطت قوات الاستخبارات التركية في تنفيذ هذه الانتهاكات والإشراف عليها

بواسطة editor
313 مشاهدة تحميل كملف PDF هذا المنشور متوفر أيضاً باللغة: الإنجليزية حجم الخط ع ع ع

مقدّمة:

عاشت “عائلة السلطان” من الريف الغربي لبلدة تل تمر مأساةً مروعة عشية عيد الأضحى، حيث تمّ اعدام أحد أبنائها ميدانياً أمام والدته، على يدّ مقاتلي “الجيش الوطني السوري”، كما تمّ توقيف والدته واعتقال وتعذيب عمه لأنهما طالبا بجثته.

بحسب شهادات جمعتها “تآزر”، فأن الضحية “عبد السلطان” (39 عاماً) كان يقل والدته لزيارة أقربائهم، حين اعترضت طريقهم دورية لقوات “الجيش الوطني” على الطريق الدولي السريع M4. حاول عناصرها مصادرة سيارة عبد، وقد حاول الاعتراض، لكن بعد جدال قصير، قُتل بالرصاص أمام والدته. بعد ذلك، أخذوا الجثة ووالدته إلى مشفى رأس العين/سري كانيه، ثم أطلقوا سراح والدته دون السماح لها بدفن ابنها.

بعد ثلاثة أيام، وصل صالح السلطان، عمّ الضحية إلى رأس العين/سري كانيه للمطالبة بالجثة، لكنه تعرض لضربٍ مبرح على يدّ خمسة عناصر من قوات “الشرطة العسكرية”، وتمّ اعتقاله بتهمة التعامل مع الإدارة الذاتية، وحرمانه من تلقي العلاج، أو توكيل محام.

بعد 20 يوماً، توصلت وساطات عشائرية إلى اتفاق مع قادة الشرطة العسكرية والشرطة المدنية في “الجيش الوطني السوري”، يقضي بتسليم جثة عبد لعائلته والسماح لها بدفنه، مقابل التكتم على القصة، كما تمّ إطلاق سراح عمه “صالح” بعد دفع فدية مالية بلغت 6500 دولار أمريكي.

تجسد قصة “عائلة السلطان” الانتهاكات المستمرة التي يتعرض لها الأهالي على يدّ “الجيش الوطني السوري” في مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي وعفرين، التي تصفها تركيا بأنها “مناطق آمنة” يمكن إعادة اللاجئين إليها، رغم تأكيد لجنة التحقيق الدولية المستقلة مراراً أنّ سوريا لا تزال غير آمنة، كذلك أكدت هيومن رايتس ووتش أن تلك المناطق تاريخياً لم تكن آمنة، بل كانت من بين أخطر الأماكن في البلاد.

خلال النصف الأول من عام 2024، وثّقت رابطة “تآزر” اعتقال 338 شخصاً (بينهم 8 أطفال و21 امرأة، اثنتان منهن من ذوي الاحتياجات الخاصة) في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض، على يدّ فصائل “الجيش الوطني السوري”، كما شاركت قواتٌ تركية في تنفيذ ما لا يقل عن 40 حالة اعتقال.

لا يزال 231 ضحية ممن وثقت “تآزر” قصص اعتقالهم/ن مخفيين/ات قسرياً في سجون “الجيش الوطني السوري” في عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، بينهم رجل وامرأتان من ذوي الاحتياجات الخاصة، فيما أُفرج عن 107 أشخاص، نجا معظمهم/ن بعد اضطرار عائلاتهم/ن إلى دفع فدى مالية لقادة وعناصر “الجيش الوطني”.

تعكس هذه الانتهاكات استمرار حالة عدم الاستقرار وانعدام الأمن في المناطق التي تحتلها تركيا في شمال سوريا، وغياب العدالة والمساءلة؛ إذ أن عدم وجود آليات انتصاف فعالة للضحايا يعني أن الجناة والمنتهكين يظلون بعيدين عن المساءلة، مما يشجع على استمرار هذه الانتهاكات، في ظل عجز أو عدم رغبة النظام القضائي في تلك المناطق في التعامل مع هذه التجاوزات بشكل عادل وفعال.

لم يقُم “الجيش الوطني السوري” بالتحقيق في ممارسات قواته، التي تستمر في اعتقال المدنيين، وإخفائهم قسراً، وانتهاك حقوقهم، كما لم تفعل الحكومة التركية، التي تمارس السلطة والقيادة الفعلية على تلك القوات، ما يكفي لتغيير سلوكها التعسفي، بل يتضح في كثير من الحالات أنها كانت شريكة في ارتكاب تلك الانتهاكات.

لذا فإن الانتهاكات التي ترتكبها فصائل “الجيش الوطني السوري” قد تنطوي على مسؤولية جنائية للقادة العسكريين الأتراك الذين كانوا على علم بالجرائم أو كان ينبغي أن يكونوا على علم بها، أو لم يتخذوا جميع التدابير اللازمة والمعقولة لمنع أو قمع ارتكابها.

بصفتها قوة احتلال، على السلطات التركية ضمان عدم قيام مسؤوليها ومن تحت قيادتهم في “الجيش الوطني السوري” باحتجاز أي شخص تعسفياً أو إساءة معاملته، كما أنها ملزمة بالتحقيق في الانتهاكات المزعومة وضمان معاقبة المسؤولين عنها بالشكل المناسب.

في المجمل، يعكس تكرار هذه الحوادث وجود بيئة قمعية لا تُشجع على العودة الطوعية والآمنة للنازحين والمهجرين قسرياً إلى مناطقهم التي تحتلها تركيا، مما يؤدي إلى استمرار النزوح وعدم الاستقرار الاجتماعي في المنطقة.

 

تصاعد الاعتقالات في المناطق التي تحتلها تركيا:

خلال النصف الأول من عام 2024، وثّقت “تآزر” اعتقال ما لا يقل عن 203 أشخاص (بينهم 13 امرأة و8 أطفال) في منطقة عفرين والبلدات التابعة لها، وفيما تمّ إطلاق سراح 33 شخصاً فقط، لا يزال مصير 170 شخص مجهولاً. كما تمّ توثيق اعتقال 135 شخصاً؛ بينهم 8 نساء، في مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي وريفيهما، وقد تمّ الإفراج عن 74 منهم/ن، فيما لا يزال مصير 61 شخصاً طيّ الكتمان.

بالمقارنة بين النصف الأول من العام 2023 والنصف الأول من العام 2024، يُمكن القول أنّ حالات الاعتقال التعسفي في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي قد تضاعفت تقريباً؛ حيث ارتفعت من 182 حالة في النصف الأول من عام 2023، إلى 338 حالة في الفترة ذاتها من عام 2024.

إنّ استمرار وتصاعد الاعتقال التعسفي في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”، وبدعم من القوات التركية، يزيد من تعقيد الوضع الأمني ويعمق معاناة السكان المحليين، خاصة العائدين/ات إلى مناطقهم.

يُشير تحليل المعلومات التي وثقتها “تآزر” حول الاعتقالات التعسفية في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي إلى تورط قوات “الشرطة العسكرية” في تنفيذ 146 حالة اعتقال، تلتها فرقة “السلطان مراد” بواقع 67 حالة، ثم الشرطة المدنية بواقع 64 حالة، كما شاركت قوات الأمن والاستخبارات التركية في تنفيذ 40 حالة اعتقال، فيما تناوبت فصائل أخرى في “الجيش الوطني السوري” كـ فرقة الحمزة، وفرقة السلطان سليمان شاه (العمشات)، وتجمع “أحرار الشرقية”، وغيرها، على ارتكاب حالات الاعتقال الأخرى. كما تمّ تأكيد نقل 6 معتقلين على الأقل إلى داخل الأراضي التركية.

اعتمدت الرابطة في توثيقاتها التي جمعتها في قاعدة البيانات الخاصة بها على شبكة باحثيها الميدانيين، والمعلومات التي حصلت عليها من ذوي المحتجزين/ات وشهود عيان، فضلاً عن التحقق من معلومات المصادر المتاحة للعموم (المصادر المفتوحة).

وتُنوّه “تآزر” إلى أن الانتهاكات التي ترتكبها القوات التركية وفصائل “الجيش الوطني السوري” في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض، هي أكثر بكثير مما يتم توثيقها والتحقق منها بالاسم والكنية ومكان الاعتقال والتاريخ على سبيل المثال، إذ تعتقد الرابطة أنّ العدد الفعلي لحالات الاعتقال هو أعلى بكثير من الرقم الوارد في هذا التقرير.

 

الاعتقال كنمط متكرّر وممارسة منهجية وواسعة:

كانت غالبية عمليات الاحتجاز والحرمان من الحرية في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي بدافع الابتزاز وتحصيل فدى مالية من الضحايا وعائلاتهم/ن، بينما احتُجز آخرون بغرض ترهيبهم ودفعهم إلى مغادرة المنطقة. كما تعرض مدنيون للاعتقال لمجرد مطالبتهم باسترجاع ممتلكاتهم، بما في ذلك اعتقال ثلاثة أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، اثنان منهم نساء، من قبل فرقة السلطان سليمان شاه/العمشات، ولا يزالون قيد الاعتقال.

إضافة إلى ذلك، تمّ توثيق حالات اعتقال طالبي لجوء، كانوا قد تعرضوا للتعذيب والمعاملة القاسية من قبل “قوات حرس الحدود التركية/الجندرما” قبل تسليمهم لقوات “الشرطة العسكرية” في الجيش الوطني السوري. ومن بين 145 طالب/ة لجوء وثقت “تآزر” اعتقالهم/ن خلال الفترة المشمولة بالتقرير، لا يزال مصير 36 منهم/ن طيّ الكتمان.

ووثّقت “تآزر” أربع حالات اضطر فيها ذوي المعتقلين إلى دفع مبلغ 2,900 دولار أمريكي لقاء الإفراج عنهم، وفي إحدى الحالات تم سلب 1,500 دولاراً أمريكياً من أحد طالبي اللجوء وأغراض شخصية، وفي قضية تسليم جثة “عبد السلطان” والإفراج عن عمّه “صالح السلطان” تمّ دفع مبلغ مالي وقدره 6,500 دولار للشرطة العسكرية والشرطة المدنية، فيما تمّ توثيق أربع حالات طُلب فيها من ذوي المعتقلين دفع مبلغ 30,000 دولار أمريكي، وبسبب عدم قدرتهم على الدفع، لا يزال الضحايا محتجزين ومخفيين قسرياً.

ومن المهمّ في سياق الاعتقالات، معرفة أنّ الاستخبارات التركية تُشرف أو على الأقل على اطلاع واسع بعمليات الاعتقال والإخفاء القسري، وكذلك صنوف التعذيب المرافقة لهذه العمليات، وقال آدم كوغل، نائب مدير قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش: “الانتهاكات المستمرة، بما في ذلك التعذيب والاختفاء القسري لأولئك الذين يعيشون تحت السلطة التركية في شمال سوريا، ستستمر ما لم تتحمل تركيا نفسها المسؤولية وتتحرك لوقفها”. وأكّد تقرير كل شيء بقوة السلاح الذي نشرته هيومن رايتس ووتش أنّ “الجيش التركي ووكالات المخابرات متورطة في تنفيذ الانتهاكات والإشراف عليها.”

كما أنّه ووفق إحاطة استخباراتية من “معهد نيو لاينز” في ديسمبر/كانون الأول 2022. جاء في الإحاطة أن “ضباط الجيش والمخابرات الأتراك الذين يرأسون هذه المراكز ينسّقون توزيع المسؤوليات العسكرية المستمرة، ويتخذون جميع القرارات، ويُبلغون القادة السوريين الذين ينفّذون بعد ذلك الأوامر”. وقد وثّقت تآزر ما لا يقل عن 22 حالة اعتقال قامت بها قوات الاستخبارات التركية بنفسها منذ بداية عام 2024.

إن استمرار، تكرار، وتصاعد حالات الاعتقال في هذه المناطق يؤكد أن هذه الممارسات ليست مجرد حوادث فردية أو عشوائية، بل هي جزء من نمط منهجي واسع النطاق. هذه الانتهاكات المستمرة تشير بوضوح إلى سياسة قمعية ممنهجة تهدف إلى ترهيب السكان المحليين، وخاصة الكُرد، وإجبارهم على مغادرة مناطقهم الأصلية أو قبول الابتزاز المالي للحصول على حريتهم.

 

التعذيب وسوء المعاملة:

قال مصدر عسكري ضمن “الجيش الوطني السوري” لـ “تآزر” إنّه شهد اعتقال مجموعة مؤلّفة من نحو 50 شخصا كانوا بصدد دخول مدينة رأس العين/سري كانيه بغية عبور الحدود إلى الأراضي التركية، لكن تمّ إلقاء القبض عليهم من قبل فرقة السلطان مراد، وقد أطلقوا سراح 44 منهم، بعد أن أخذوا منهم مجتمعين مبلغ 13,200 دولار أمريكي، فيما أبقوا على ستة أشخاص، موجّهين إليهم تهمة التعامل مع الإدارة الذاتية/قوات سوريا الديمقراطية، وقد ترافق التحقيق معهم -بحسب الشاهد- بشتى صنوف التعذيب؛ من الضرب والركل واللكم، والضرب بالكبل، وكذلك الأذى النفسي؛ كتوجيه الشتائم والإهانات.

ويبدو أنّ تهمة التعامل مع الإدارة الذاتية/قوات سوريا الديمقراطية لا تزال التهمة الأكثر شيوعاً في المناطق التي تحتلها تركيا، إذ أكد الشاهد أنّ اثنين من المعتقلين الستة هم عرب من الداخل السوري، ولم يأتوا من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وأنّ المحتجزين الستة كانوا يحاولون مع بقية أفراد المجموعة عبور الحدود بطريقة غير نظامية إلى تركيا، للسفر عبرها إلى أوروبا.

وتعكسُ أنماط التعذيب وسوء المعاملة التي تمّ توثيقها على يد “الجيش الوطني” المُعارض؛ صورة مما ترتكبه الحكومة السورية في فروعها الأمنية المختلفة، حيث فصّل الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات مختلف أشكال التعذيب التي تعرضوا لها، أو شهدوها أثناء احتجازهم. فبالإضافة إلى اللطم والركل والصفع، تم ضرب الضحايا بالعصي وخراطيم المياه والأسلاك الكهربائية.

كما تعرض عدة ضحايا للشبح بواسطة البلانكو وما يُعرف بالفروجة ولإطفاء السجائر في أجسادهم. وتم تعليق بعض الضحايا إلى السقف، وضربهم بأعقاب البنادق، وتعرضوا للصعق بالكهرباء. وكان بعض الضحايا قد تعرضوا لأشكال أخرى من التعذيب مثل الإغراق في الماء، تكسير الأصابع، إحداث جروح بواسطة آلة حادة، والجر خلف عربة عسكرية.[1]

ورافق التعذيب الجسدي أذى نفسي أيضاً، حيث تعرض أغلب الضحايا للإهانة، فيما أُجبِر البعض منهم على مشاهدة تعذيب أفراد آخرين بطريقة أشد قسوة، وهُددوا بالتعرض للمثل إن لم يتعاونوا ويعترفوا بما هو مطلوب منهم. كما تعرض معظم الضحايا للتهديد بالقتل، وبعضهم تمّ توجيه السلاح فعلاً لرؤوسهم. وانتهى الأمر بالبعض بالموافقة على التوقيع على اعترافات لم يُدلوا بها.

تجدر الإشارة إلى أن ضباطاً أتراك كانوا موجودين بصفة منتظمة في مرافق الاحتجاز التابعة للجيش الوطني السوري، وأفاد محتجزون سابقون، أنّ مسؤولين أتراك كانوا حاضرين أثناء جلسات استجواب استُخدم فيها التعذيب، إذ أنّ الجيش التركي ووكالات المخابرات متورطة في تنفيذ هذه الانتهاكات والإشراف عليها.

وقد وثّق تقرير مُشترك نشرته “تآزر” بتاريخ 26 حزيران/يونيو 2024 بعنوان في غياب المساءلة: التعذيب كسياسة ممنهجة في شمال سوريا، استناداً لتحليل 65 مقابلة مع ضحايا وناجين/ات وأفراد عائلاتهم/ن في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض، أنّ التعذيب وسوء المعاملة من قبل فصائل “الجيش الوطني السوري” ترقى لتكون جزء من نمط منهجي واسع النطاق يهدف إلى ترهيب السكان المحليين، وخاصة الكُرد، وإجبارهم على مغادرة مناطقهم الأصلية أو الرضوخ للابتزاز المالي بشكل مستمر.

 

ظروف احتجاز لاإنسانية:

لم يلتزم “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، بأي معايير دنيا ينبغي تطبيقها على الأشخاص المحتجزين لدى قواته، حيث تمّ احتجاز جميع من تمت مقابلتهم في أماكن مكتظة أو في زنازين انفرادية ولفترات طويلة دون تبرير، كما فُرِضت على جميع الضحايا ظروف احتجاز لاإنسانية كان المسؤولون عنها يبتغون منها إما زيادة الضغط على الضحايا للحصول على اعترافات أو معلومات أو فدية من العائلة، وإما دون غرض محدّد ولمجرّد التسبّب بالمزيد من المعاناة للضحايا.

وقد اشترك معظم الضحايا في تجربة الحرمان من النوم والتعريض للبرد الشديد والحرمان من أي وسائل للتدفئة؛ أقلها الأغطية، ولم يذكر أي ضحية أنه حصل على تغذية كافية أو مياه شرب نظيفة. كما تعرض جميع الضحايا للشتائم والعبارات والتصرفات التي تمس العرض والشرف وفق المعايير الاجتماعية السائدة.

للاحتجاز تأثير متعدد الأوجه على الرجال والنساء والأطفال، ويشمل ضروباً من الأذى الجسدي والنفسي على حد سواء، إذ وصف معظم الناجين معاناتهم من آلام جسدية مُزمنة ناجمة عن التعذيب الذي تعرضوا له، ومن اضطرابات نفسية لاحقة للصدمة، نوبات هلع، وخوف مستمر، وقلق، مع تكرار الكوابيس التي تزيد من حالة الصدمة.

 

الإطار القانوني:

  • التزامات المجموعات المسلحة من غير الدول وفقاً للقانون الدولي:

في سياق القانون الدولي الإنساني النافذ على المناطق التي تتناولها هذه المراسلة، ينظم هذا القانون القضايا المرتبطة بشكل كافٍ بالنزاع المسلح القائم. تمارس المجموعات المسلحة من غير الدول السيطرة على السكان المدنيين بحكم وجود نزاع مسلح تنخرط فيه تلك المجموعات في النزاع ضد الدولة. بناءً على ذلك، ينطبق القانون الدولي الإنساني لحماية هؤلاء السكان من ممارسة السلطة التعسفية من قبل أطراف النزاع في ظل غياب أو تعطيل الحماية التي يفترض أن تكون ممنوحة لهم بحكم القانون الوطني.[2] وبالتالي فإن المجموعات المسلحة من غير الدول مُلزمة بمجموعة من القواعد القانونية التعاقدية والعرفية في تعاملها مع المدنيين خلال النزاع المسلح ومن ضمن ذلك وعلى الأقل “الحماية المقدمة للجرحى والمرضى؛ حماية المستشفيات؛ مبدأ المعاملة الإنسانية؛ حظر العقوبات الجماعية والنهب والانتقام؛ وأخذ الرهائن؛ حظر الترحيل والنقل القسري؛ والحق في الإجراءات القانونية الواجبة والضمانات القضائية”.[3]

على الجانب الآخر، فعلى الرغم من أن الدول هي المسؤولة الأولى عن احترام وحماية وإنفاذ حقوق الإنسان بموجب القانون الدولي، هناك دعم متزايد للموقف القائل أن المجموعات المسلحة من غير الدول التي تسيطر على أراضٍ وبالتالي السكان، تتحمل التزامات القانون الدولي لحقوق الإنسان من اجل تجنب حدوث فجوة حماية.[4] وقد أيدت الأمم المتحدة هذا الموقف.[5] كما أشار مجلس حقوق الإنسان إلى “أنه يُعتبر على نحو متزايد أن الجهات الفاعلة من غير الدولة يمكن أن تكون ملزمة، في ظل ظروف معينة، بالقانون الدولي لحقوق الإنسان”.[6] كما خلص خبراء حقوق الإنسان في الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان في بيانهم إلى أنه “يتعين، كحدّ أدنى، على الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدولة التي تمارس وظائف شبيهة بوظائف الحكومة أو تسيطر بحكم الأمر الواقع على أراضٍ وسكان، احترام حقوق الإنسان الخاصة بالأفراد والمجموعات وحمايتها”.[7]

  • التعذيب والمعاملة اللاإنسانية:

يعتبر حظر التعذيب والعقوبة أو المعاملة القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة من القواعد الآمرة في القانون الدولي (jus cogens)، ولا يخضع هذا الحظر في هذا السياق لأي تبريرات أو قيود أو ذرائع متعلقة بالشخصية القانونية للجهة المعنية. فالحظر مطلق في زمن السلم والحرب، وينطبق على الجميع دون استثناء.

وفي هذا السياق، تحظر المادة المشتركة الثالثة من اتفاقيات جنيف المنطبقة خلال النزاعات المسلحة غير الدولية، المعاملة القاسية والتعذيب وكذلك الاعتداء على الكرامة الشخصية (المعاملة اللاإنسانية)، ولا سيما المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، وهذا الحظر يعتبر انعكاساً للقانون الدولي الإنساني العرفي.[8] والجدير بالذكر، أن مفهومي التعذيب والمعاملة اللاإنسانية المحظورين خلال النزاعات المسلحة لا يتطلبان مشاركة أو وجود مسؤول حكومي أو أي شخص آخر له سلطة في عملية التعذيب[9] على غرار ما تفرضه اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وبالتالي، يتحمل أفراد وقادة المجموعات المسلحة بصفتهم، تلك المسؤولية القانونية لارتكاب الأفعال التي ترقى للتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية دون الحاجة للمجادلة حول مسؤولية الدولة في ذلك. وارتكاب التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية خلال النزاع المسلح غير الدولي يترتب عليه مسؤولية جنائية فردية في حال استوفى الفعل أركان جريمة حرب التعذيب أو المعاملة  اللاإنسانية كما ورد في مواثيق المحاكم الجنائية الدولية.[10] وتجدر الإشارة إلى أن واجب المعاملة الإنسانية ينطبق في جميع الظروف ولا يخضع للضرورة العسكرية أو للتقيّد المتبادل من قبل الطرف الآخر في النزاع.[11]

كما تنص المادة 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”. وبالمثل، تلزم المادة 2 من اتفاقية مناهضة التعذيب الدول الأطراف بالامتناع عن أعمال التعذيب واتخاذ تدابير تشريعية وقضائية وإدارية فعالة لمنع أعمال التعذيب على أراضيها. تُلزم المادة 16 من اتفاقية مناهضة التعذيب الدول الأطراف بحظر ومنع الأفعال الأخرى للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي لا ترقى إلى مستوى التعذيب في نطاق ولايتها القضائية. وتنص المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أنه “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”.

وتنص المادة 2 (2) من اتفاقية مناهضة التعذيب على أنه “لا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية، سواء كانت حالة حرب أو تهديد بالحرب أو عدم استقرار سياسي داخلي أو أي حالة طوارئ عامة أخرى، كمبرر للتعذيب”. وبالمثل، توضح المادة 4 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أن الالتزام المنصوص عليه في المادة 7 (حظر التعذيب) لا يمكن الانتقاص منه في أوقات الحرب أو أي نوع من حالات الطوارئ العامة.

  • الحرمان التعسفي من الحرية:

يُعتبر الحرمان التعسفي من الحرية محظوراً كأحد قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي،[12] وينطبق التماثل من القانون النافذ على النزاع المسلح الدولي وكذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان. وبناءً على ذلك، يجب أن يكون الحرمان من الحرية مشروعاً في القانون النافذ، ومستوفياً للإجراءات الأساسية وأهمها: وجوب إبلاغ الشخص الذي يُلقى القبض عليه بأسباب توقيفه، وجوب إحضار الشخص الموقوف بتهمة جنائية أمام قاضِ، ودون إبطاء، ووجوب توفير فرصة للشخص المحروم من حريته للطعن بقانونية الاحتجاز.[13] وفيما يخص مشروعية أسباب الحرمان من الحرية، يُستشهد عادة بالموجبات المفروضة خلال النزاع المسلح الدولي لجهة أن تقتصر أسباب هذا الحرمان على الضرورة القصوى في حال لم يكن ذلك لأسباب جنائية.[14] بالإضافة إلى ذلك، وبغض النظر عن أسباب الحرمان من الحرية، يبقى جميع أطراف النزاع مُلزَمين بمعاملة جميع الأشخاص تحت سيطرتهم بإنسانية ودون تمييز على أي أساس وفقاً للفقرة الأولى من المادة الثالثة المشتركة.

وفي سياق القانون الدولي لحقوق الإنسان، تحظر المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أعمال الاعتقال أو الاحتجاز أو النفي التعسفي. تحمي المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حق الأفراد في الحرية والأمن. وتنص كذلك في الفقرة 4 على أن “لكل شخص حرم من حريته بالاعتقال أو الاحتجاز الحق في رفع دعوى أمام محكمة لكي تبت تلك المحكمة دون إبطاء في مشروعية احتجازه، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاحتجاز غير قانوني”.

في التعليق العام رقم 35، تناولت لجنة حقوق الإنسان مدى انطباق المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على حالات النزاع المسلح، نظرًا لأن القانون الدولي الإنساني ينظم احتجاز مقاتلي العدو والمدنيين بشكل مختلف. أوضحت لجنة حقوق الإنسان أن “المادة 9 [من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية] تنطبق أيضًا في حالات النزاع المسلح” وأن القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان مجالان قانونيان متكاملان، ولا يستبعد أحدهما الآخر.

علاوةً على ذلك، في حين أن المادة 9 لم يتم تضمينها كبند غير قابل للتقييد بموجب المادة 4 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إلا أن هناك حدًا لسلطة الدولة في التقييد. وأي استثناء من المادة التاسعة (وهو ما لم يحدث في الوضع في سوريا) يجب أن يكون “مقتضيات صارمة لمقتضيات الوضع الفعلي”. وأخيراً، “إذا تم التذرع، في ظل الظروف الأكثر استثنائية، بتهديد حالي ومباشر وحتمي لتبرير احتجاز الأشخاص الذين يُعتبر أنهم يمثلون مثل هذا التهديد، فإن عبء الإثبات يقع على عاتق الدول الأطراف لإثبات أن هذا الفرد يشكل مثل هذا التهديد وأنه لا يمكن معالجته بتدابير بديلة، ويزداد هذا العبء مع طول مدة الاحتجاز. ويتعين على الدول الأطراف أيضاً أن تثبت أن الاحتجاز لا يدوم لفترة أطول مما هو ضروري فعلاً، وأن المدة الإجمالية للاحتجاز المحتمل محدودة، وأنها تحترم بالكامل الضمانات المنصوص عليها في المادة 9 في جميع الحالات.

بحكم الإجماع المتزايد حول مسؤولية المجموعات المسلحة من غير الدول حول احترام وحماية حقوق الإنسان في المناطق التي تسيطر عليها، تنطبق الأحكام الواردة أعلاه على فصائل “الجيش الوطني السوري” نظراً لواقع السيطرة المستمرة لتلك الفصائل على ما تُسمى بمناطق “نبع السلام” بالإضافة إلى مناطق “غصن الزيتون”، وقيامها بوظائف تشبه وظائف الحكومة.

 


[1] في طريقة التعذيب المُسماة “البلانكو” يتم ربط الضحية وتعليقه من معصمه بحبل يتدلى من السقف، وقد تلامس رؤوس أصابع قدميه الأرض فتتعرض لضغط كبير أو يبقى معلقاً في الهواء ليضغط ثِقل جسده بالكامل على معصمه، ما يؤدي لتورمها مع ألم شديد. وقد يبقى الضحية معلقاً لساعات أو أيام مع تعرضه للضرب الشديد. وفي الطريقة التي تُسمى بـ “الفروج” تُربط يدا الضحية مع قدميه، ثم يُعلق منهما على عمود خشبي أو معدني ويُرفع عن الأرض في طريقة تحاكي شواء الدجاج، ويترافق ذلك مع ضربه على مختلف أنحاء جسده.

[2] Official Records of the Diplomatic Conference on the Reaffirmation and Development of International Humanitarian Law applicable in Armed Conflicts, Vol. 8, CDDH/I/SR.22, Geneva, 1974–77, p. 201.

[3] Sivakumaran, The Law of Non-International Armed Conflict, (Oxford University Press, 2012), p 530.

[4] Committee Against Torture, 20th Sess., GRB. v Sweden, Communication No. 83/ 1997, UN. Doc. CAT/C/20/D/83/1997 (19 June 1998); Sheekh v Netherlands, App. No. 1948/04, HUDOC at 45 (11 January 2007); UN Secretary-General, Report of the Secretary-General’s Panel of Experts on Accountability in Sri Lanka, 243 (31 March 2011), p 188; Darragh Murray, Human Rights Obligations of Non-State Armed Groups (Hart Publishing, 2016).

[5] OHCHR, ‘International Legal Protection of Human Rights in Armed Conflict’, Geneva and New-York (2011), pp 23-27 (Available at: https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/HR_in_armed_conflict.pdf).

[6] Ibid. p. 24.

[7] OHCHR, Joint Statement by independent United Nations human rights experts on human rights responsibilities of armed non-State actors, 25 February 2021 (Available at: https://www.ohchr.org/en/press-releases/2021/02/joint-statement-independent-united-nations-human-rights-experts-human-rights?LangID=E&NewsID=26797).

 [8]القاعدة 90 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر حول القانون الدولي الإنساني العرفي.

[9] ICTY, Kunarac Trial Judgment, 2001, para. 496, confirmed in Appeal Judgment, 2002, para. 148. See also Simić Trial Judgment, 2003, para. 82; Brđanin Trial Judgment, 2004, para. 488; Kvočka Appeal Judgment, 2005, para. 284; Limaj Trial Judgment, 2005, para. 240; Mrkšić Trial Judgment, 2007, para. 514; Haradinaj Retrial Judgment, 2012, para. 419; and Stanišić and ŽupljaninTrial Judgment, 2013, para. 49.

[10] نظام روما الأساسي، المادة 8 (ج)(1) و(2)؛ ميثاق المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، المادة 2(ب)؛ المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، المادة 4.

[11] ICRC 2020 Commentary on Common Article 3, para 596.

[12] القاعدة 99 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر حول القانون الدولي الإنساني العرفي.

[13] انظر على سبيل المثال، لجنة حقوق الإنسان، التعليق العام رقم 35 عام 2014.

[14] على سبيل المثال، المادتان 42 و78 من اتفاقية جنيف الرابعة.

منشورات ذات صلة

اترك تعليقاً

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك عدم المشاركة إذا كنت ترغب في ذلك. موافق اقرا المزيد