مقدّمة:
عاد “حنان حسين” إلى قريته بريف عفرين في شباط/فبراير 2024، بعد نزوح دام أعوام، من أجل رعاية والدته المسنة عقب وفاة والده، لكنّه فوجئ بتعرضه للاعتقال من قبل قوات تابعة للجيش الوطني السوري/المُعارض، والتي لم تطلق سراحه إلا بعد أنّ دفع 7,000 دولار أمريكي كفدية.[1]
لكن الأمر لم يتوقّف عند هذا الحدّ، حيث تعرض “حسين” للاعتقال مرةً أخرى عند مراجعته المجلس المحلي في عفرين، هذه المرة من قبل قوات الشرطة العسكرية، التي وجهت له التهمة الأكثر شيوعاً بحق سكان عفرين الكُرد، وهي التعامل مع الإدارة الذاتية/قوات سوريا الديمقراطية، وبقي محتجزاً نحو شهر، قبل أنّ يتم إطلاق سراحه مقابل دفعه مبلغ 2,000 دولار أمريكي، وقد وجد الضحية نفسه مضطراً لقبول الابتزاز من أجل رعاية والدته المسنّة، إلا أنه لا يزال قلقاً، ويخشى استمرار هذه التجاوزات بحقه، نظراً لعدم وجود آليات انتصاف فعالة للضحايا.[2]
قصة “حسين” وحوادث غيرها وثّقتها رابطة “تآزر” للضحايا، منذ مطلع عام 2024، تُظهر مدى التضييق على أهالي عفرين الأصليين الذين يُريدون العودة إلى ديارهم، لإدارة ممتلكاتهم أو رعاية ذويهم، وهو ما يبرر امتناع آلاف العائلات الكُردية المُهجرة قسرياً من العودة، خشية الاعتقال التعسفي، الإخفاء القسري، التعذيب، الابتزاز، وغيرها من أنماط الانتهاكات الموثقة على يد فصائل “الجيش الوطني السوري” التي أولتها تركيا إدارة المنطقة، منذ احتلالها في عام 2018.
لا يزال عشرات الضحايا ممن وثقت “تآزر” قصص اعتقالهم/ن مخفيين/ات قسرياً في سجون “الجيش الوطني السوري”، في عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، بما في ذلك ثلاثة أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، اثنان منهم نساء، فيما أُفرج عن آخرين لقاء فدى مالية.
يشير استمرار وتكرار اعتقال العائدين/ات إلى المناطق التي تحتلها تركيا، مثل عفرين ورأس العين/سري كانيه، ولا سيما الكُرد منهم/ن، إلى وجود استهداف منهجي للسكان الكُرد. حيث يُتهم العائدون بشكل متكرر بالتعامل مع الإدارة الذاتية أو قوات سوريا الديمقراطية. هذا النمط من الانتهاكات يعكس سياسات قمعية ممنهجة تهدف إلى ترهيب وإبعاد الكُرد عن مناطقهم الأصلية.
كما تعكس هذه الانتهاكات استمرار حالة عدم الاستقرار وانعدام الأمن في المناطق التي تحتلها تركيا في شمال سوريا، وغياب العدالة والمساءلة؛ إذ أن عدم وجود آليات انتصاف فعالة للضحايا يعني أن الجناة والمنتهكين يظلون بعيدين عن المساءلة، مما يشجع على استمرار هذه الانتهاكات، في ظل عجز أو عدم رغبة النظام القضائي في تلك المناطق في التعامل مع هذه التجاوزات بشكل عادل وفعال.
تصاعد الاعتقالات في المناطق التي تحتلها تركيا:
وثقت رابطة “تآزر” للضحايا اعتقال ما لا يقل عن 308 شخصاً، بينهم 13 امرأة و5 أطفال، خلال الأشهر الخمسة الأولى من عام 2024، في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي. تمت هذه الاعتقالات على أيدي القوات التركية وفصائل “الجيش الوطني السوري” المدعومة منها، وفيما تمّ الإفراج عن 103 أشخاص فقط من عموم المعتقلين/ات، لا يزال مصير 205 أشخاص مجهولاً.
بالمقارنة بين الأشهر الخمسة الأولى من عام 2023 والأشهر الخمسة الأولى من عام 2024، يمكن القول إن حالات الاعتقال التعسفي في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي قد تضاعفت، حيث ارتفعت من 155 حالة في عام 2023 إلى 308 حالات في عام 2024. إنّ استمرار وتصاعد الاعتقال التعسفي في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”، وبدعم من القوات التركية، يزيد من تعقيد الوضع الأمني ويعمق معاناة السكان المحليين، خاصة العائدين إلى مناطقهم.
وفي حين تمّ رصد وتوثيق 129 حالة اعتقال في رأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، فقد تمّ رصد وتوثيق 179 حالة اعتقال في عفرين، وقد سجّلت قوات “الشرطة العسكرية” أعلى نسبة اعتقالات، تلتها قوات “الشرطة المدنية”، ثم “فرقة السلطان مراد” وقوى الأمن والاستخبارات التركية، فضلاً عن حالات اعتقال متفرقة ارتكبتها فصائل أخرى منضوية في “الجيش الوطني السوري” كـ فرقة الحمزة، وفرقة السلطان سليمان شاه (العمشات)، وتجمع “أحرار الشرقية”، وغيرها.
لم يقم “الجيش الوطني السوري” بالتحقيق في ممارسات قواته، التي تستمر في اعتقال المدنيين، وإخفائهم قسراً، وانتهاك حقوقهم، كما لم تفعل الحكومة التركية، التي تمارس السلطة والقيادة الفعلية على تلك القوات، ما يكفي لتغيير سلوكها التعسفي، بل يتضح في بعض الحالات أنها كانت شريكة في ارتكاب تلك الانتهاكات.
لذا فإن الانتهاكات التي ترتكبها فصائل “الجيش الوطني السوري” قد تنطوي على مسؤولية جنائية للقادة العسكريين الأتراك الذين كانوا على علم بالجرائم أو كان ينبغي أن يكونوا على علم بها، أو لم يتخذوا جميع التدابير اللازمة والمعقولة لمنع أو قمع ارتكابها.[3]
بصفتها قوة احتلال، على السلطات التركية ضمان عدم قيام مسؤوليها ومن تحت قيادتهم في “الجيش الوطني السوري” باحتجاز أي شخص تعسفياً أو إساءة معاملته، كما أنها ملزمة بالتحقيق في الانتهاكات المزعومة وضمان معاقبة المسؤولين عنها بالشكل المناسب.
في المجمل، يعكس تكرار هذه الحوادث وجود بيئة قمعية لا تُشجع على العودة الطوعية والآمنة للنازحين والمهجرين قسرياً إلى مناطقهم التي تحتلها تركيا، مما يؤدي إلى استمرار النزوح وعدم الاستقرار الاجتماعي في المنطقة.
الاعتقال كنمط متكرّر وممارسة منهجية وواسعة:
كانت غالبية عمليات الاحتجاز والحرمان من الحرية في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي بدافع الابتزاز وتحصيل فدى مالية من الضحايا وعائلاتهم/ن، بينما احتُجز آخرون بغرض ترهيبهم ودفعهم إلى مغادرة المنطقة. كما تعرض مدنيون للاعتقال لمجرد مطالبتهم باسترجاع ممتلكاتهم، بما في ذلك اعتقال ثلاثة أشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، اثنان منهم نساء، من قبل فرقة السلطان سليمان شاه/العمشات، ولا يزالون قيد الاعتقال.
إضافة إلى ذلك، تمّ توثيق حالات اعتقال طالبي لجوء، كانوا قد تعرضوا للتعذيب والمعاملة القاسية من قبل “قوات حرس الحدود التركية/الجندرما” قبل تسليمهم لقوات “الشرطة العسكرية” في الجيش الوطني السوري. ومن بين 114 طالب/ة لجوء وثقت “تآزر” اعتقالهم/ن خلال الفترة المشمولة بالتقرير، لا يزال مصير 36 منهم/ن طيّ الكتمان.
ووثّقت “تآزر” أربع حالات اضطر فيها ذوي المعتقلين إلى دفع مبلغ 2,900 دولار أمريكي لقاء الإفراج عنهم، فيما تمّ توثيق ثلاث حالات طُلب فيها من ذوي المعتقلين دفع مبلغ 25 ألف دولار أمريكي، وبسبب عدم قدرتهم على الدفع، لا يزال الضحايا الثلاثة محتجزين ومخفيين قسرياً.
وقال شاهد من في الريف الغربي لرأس العين/سري كانيه لـ “تآزر” إنه شهد اعتقال دورية مشتركة من فرقة السلطان مراد وقوات الشرطة العسكرية لاثنين من جيرانه أثناء عملهم في الزراعة والعتالة لتأمين معيشتهم، بعد التعدي عليهم وضربهم بشكل عنيف على مرأى من الجيران، بالإضافة إلى تعصيب أعينهم وتقييد أيديهم، واتهامهم بالتعامل مع الإدارة الذاتية/قوات سوريا الديمقراطية. تُظهر القصة مدى عبثية الاعتقال، حيث ذكر الشاهد أن سبب الاعتقال كان اعتراض الأخوين على قيام عناصر الدورية بتفتيش ومُداهمة عدد من منازل القرية دون سبب وجيه.[4]
يُشير تحليل المعلومات التي وثقتها “تآزر” حول الاعتقالات التعسفية في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي إلى تورط قوات “الشرطة العسكرية” في تنفيذ 141 حالة اعتقال، تلتها فرقة السلطان مراد بتنفيذ 58 حالة اعتقال، ثم قوات “الشرطة المدنية” بواقع 54 حالة، كما نفذت قوات الجندرما والاستخبارات التركية التي نفذت 38 حالة اعتقال، فيما تناوبت فصائل أخرى في الجيش الوطني السوري على ارتكاب حالات الاعتقال الأخرى. كما تمّ تأكيد نقل 6 معتقلين على الأقل إلى الأراضي التركية.
ومن المهمّ في سياق الاعتقالات، معرفة أنّ الاستخبارات التركية تُشرف أو على الأقل على اطلاع واسع بعمليات الاعتقال والإخفاء القسري، وكذلك صنوف التعذيب المرافقة لهذه العمليات، وقال آدم كوغل، نائب مدير قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش: “الانتهاكات المستمرة، بما في ذلك التعذيب والاختفاء القسري لأولئك الذين يعيشون تحت السلطة التركية في شمال سوريا، ستستمر ما لم تتحمل تركيا نفسها المسؤولية وتتحرك لوقفها”. وأكّد تقرير كل شيء بقوة السلاح الذي نشرته هيومن رايتس ووتش أنّ “الجيش التركي ووكالات المخابرات متورطة في تنفيذ الانتهاكات والإشراف عليها.”
كما أنّه ووفق إحاطة استخباراتية من “معهد نيو لاينز” في ديسمبر/كانون الأول 2022. جاء في الإحاطة أن “ضباط الجيش والمخابرات الأتراك الذين يرأسون هذه المراكز ينسّقون توزيع المسؤوليات العسكرية المستمرة، ويتخذون جميع القرارات، ويُبلغون القادة السوريين الذين ينفّذون بعد ذلك الأوامر”. وقد وثّقت تآزر ما لا يقل عن 22 حالة اعتقال قامت بها قوات الاستخبارات التركية بنفسها منذ بداية عام 2024.
إن استمرار، تكرار، وتصاعد حالات الاعتقال في هذه المناطق يؤكد أن هذه الممارسات ليست مجرد حوادث فردية أو عشوائية، بل هي جزء من نمط منهجي واسع النطاق. هذه الانتهاكات المستمرة تشير بوضوح إلى سياسة قمعية ممنهجة تهدف إلى ترهيب السكان المحليين، وخاصة الكُرد، وإجبارهم على مغادرة مناطقهم الأصلية أو قبول الابتزاز المالي للحصول على حريتهم. هذا النمط المنهجي من الاعتقالات والابتزاز يعكس مستوى عالٍ من التنظيم والتنسيق بين القوات التركية والفصائل التابعة لها في هذه المناطق، مما يزيد من تعقيد الوضع الأمني ويعمق معاناة السكان المحليين.
ظروف احتجاز لاإنسانية:
قال مصدر عسكري ضمن “الجيش الوطني السوري” لـ “تآزر” إنّه شهد اعتقال مجموعة مؤلّفة من نحو 50 شخصا كانوا بصدد دخول مدينة رأس العين/سري كانيه بغية عبور الحدود إلى الأراضي التركية، لكن تمّ إلقاء القبض عليهم من قبل فرقة السلطان مراد، وقد أطلقوا سراح 44 منهم، بعد أن أخذوا منهم مجتمعين مبلغ 13,200 دولار أمريكي، فيما أبقوا على ستة أشخاص، موجّهين إليهم تهمة التعامل مع الإدارة الذاتية/قوات سوريا الديمقراطية، وقد ترافق التحقيق معهم -بحسب الشاهد- بشتى صنوف التعذيب؛ من الضرب والركل واللكم، والضرب بالكبل، وكذلك الأذى النفسي؛ كتوجيه الشتائم والإهانات.
ويبدو أنّ تهمة التعامل مع الإدارة الذاتية/قوات سوريا الديمقراطية لا تزال التهمة الأكثر شيوعاً في المناطق التي تحتلها تركيا، إذ أكد الشاهد أنّ اثنين من المعتقلين الستة هم عرب من الداخل السوري، ولم يأتوا من مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وأنّ المحتجزين الستة كانوا يحاولون مع بقية أفراد المجموعة عبور الحدود بطريقة غير شرعية إلى تركيا، للسفر عبرها إلى أوروبا.
وقد فصّل تقرير لـ “تآزر” حول الاعتقال التعسفي وآثاره على الضحايا وذويهم، كان قد نُشر في شباط/فبراير 2024، وسائل تعذيب متعددة تستخدمها فصائل “الجيش الوطني السوري” التي تدعمها وتمولها تركيا في مناطق عفرين ورأس العين/سري كانيه وتل أبيض/كري سبي، ذلك بناءً على تحليل معلومات 34 شهادة تمّ جمعها من ناجين/ات، إضافة إلى 6 شهادات أخرى وثّقتها تآزر في آذار/مارس ونيسان/أبريل 2024، وتُظهر الشهادات ومقاطعتها تكرار أنماط التعذيب وتشابهها في معظم الأحيان.
أثناء وجودهم في الحجز، أبلغ العديد من الأشخاص الذين تمت مقابلتهم أنه لم يُسمح لهم باستخدام الحمامات/المراحيض إلا مرة واحدة يومياً، وفي بعض الأحيان لفترات امتدت لعدة أيام. وتمّ تقديم وجبة صغيرة لهم يومياً اضطروا أحياناً لدفع ثمنها، ناهيك عن حرمان الضحايا من أي تدابير تتعلق بالنظافة. كما لم تتم مراعاة الحاجات الصحية الخاصة بالنساء، فقد تمّ حرمان 3 سيدات من الضحايا من الفوط الصحية خلال فترة اعتقالهنّ التي استمرت أكثر من شهر، بالإضافة إلى حرمانهنّ عمداً من الاستخدام الطبيعي للمراحيض والاستحمام، وإجبارهنّ على أن يرافقهنّ حرس من الرجال عند استخدامهنّ للمرحاض، مما نتج عنه أمراض في الجهاز التناسلي لهؤلاء الضحايا السيدات.
ولم تلتزم الجهات المحتجزة بأي معايير دنيا ينبغي تطبيقها على الأشخاص المحتجزين لديهم. تمّ احتجاز جميع من تمت مقابلتهم في أماكن مكتظة أو في زنازين انفرادية ولفترات طويلة دون تبرير. وكان يتم استجواب النساء من قبل الرجال، ويتعرضون لهن بعدة شتائم. كما فُرِضت على جميع الضحايا ظروف احتجاز لاإنسانية كان المسؤولون عنها يبتغون منها إما زيادة الضغط على الضحايا للحصول على اعترافات أو معلومات أو فدية من العائلة، وإما دون غرض محدّد ولمجرّد التسبّب بالمزيد من المعاناة للضحايا. وقد اشترك معظم الضحايا في تجربة الحرمان من النوم والتعريض للبرد الشديد والحرمان من أي وسائل للتدفئة؛ أقلها الأغطية. كما لم يذكر أي ضحية أنه حصل على تغذية كافية أو مياه شرب نظيفة. كما تعرض جميع الضحايا للشتائم والعبارات والتصرفات التي تمس العرض والشرف وفق المعايير الاجتماعية السائدة، وعادة ما كان الضحايا الأكراد يوصفون بالخنازير والكفرة.
وقد فصّل الأشخاص الذين أجريت معهم المقابلات مختلف أشكال التعذيب وسوء المعاملة التي تعرضوا لها، أو شهدوها أثناء احتجازهم. واستخدم الجناة المزعومون وسائل وأساليب متشابهة ومتنوعة لإحداث ألم ومعاناة شديدين للضحايا. فبالإضافة إلى اللطم والركل والصفع، تم ضرب الضحايا بالعصي وخراطيم المياه والأسلاك الكهربائية. كما تعرض عدة ضحايا للشبح بواسطة البلانكو[5] وما يُعرف بالفروجة[6] ولإطفاء السجائر في أجسادهم. وتم تعليق بعض الضحايا إلى السقف، وضربهم بأعقاب البنادق، وتعرضوا للصعق بالكهرباء. وكان بعض الضحايا قد تعرضوا لأشكال أخرى من التعذيب مثل الإغراق في الماء، تكسير الأصابع، إحداث جروح بواسطة آلة حادة، والجر خلف عربة عسكرية. بالإضافة إلى ذلك، أُجبِر بعض الضحايا على مشاهدة تعذيب أفراد آخرين بطريقة أشد قسوة، وهُددوا بالتعرض للمثل إن لم يتعاونوا ويعترفوا بما هو مطلوب منهم. كما تعرض معظم الضحايا للتهديد بالقتل، وبعضهم تمّ توجيه السلاح فعلاً لرؤوسهم.
وقد رافق التحقيق في الإجمال مختلف أشكال التعذيب والمعاملة اللاإنسانية، وانتهى الأمر بالبعض بالموافقة على التوقيع على اعترافات لم يُدلوا بها.
الإطار القانوني:
في سياق القانون الدولي الإنساني النافذ على المناطق التي تتناولها هذه المراسلة، ينظم هذا القانون القضايا المرتبطة بشكل كافٍ بالنزاع المسلح القائم. تمارس المجموعات المسلحة من غير الدول السيطرة على السكان المدنيين بحكم وجود نزاع مسلح تنخرط فيه تلك المجموعات في النزاع ضد الدولة. بناءً على ذلك، ينطبق القانون الدولي الإنساني لحماية هؤلاء السكان من ممارسة السلطة التعسفية من قبل أطراف النزاع في ظل غياب أو تعطيل الحماية التي يفترض أن تكون ممنوحة لهم بحكم القانون الوطني.[7] وبالتالي فإن المجموعات المسلحة من غير الدول مُلزمة بمجموعة من القواعد القانونية التعاقدية والعرفية في تعاملها مع المدنيين خلال النزاع المسلح ومن ضمن ذلك وعلى الأقل “الحماية المقدمة للجرحى والمرضى؛ حماية المستشفيات؛ مبدأ المعاملة الإنسانية؛ حظر العقوبات الجماعية والنهب والانتقام؛ وأخذ الرهائن؛ حظر الترحيل والنقل القسري؛ والحق في الإجراءات القانونية الواجبة والضمانات القضائية”.[8]
على الجانب الآخر، فعلى الرغم من أن الدول هي المسؤولة الأولى عن احترام وحماية وإنفاذ حقوق الإنسان بموجب القانون الدولي، هناك دعم متزايد للموقف القائل أن المجموعات المسلحة من غير الدول التي تسيطر على أراضٍ وبالتالي السكان، تتحمل التزامات القانون الدولي لحقوق الإنسان من اجل تجنب حدوث فجوة حماية.[9] وقد أيدت الأمم المتحدة هذا الموقف.[10] كما أشار مجلس حقوق الإنسان إلى “أنه يُعتبر على نحو متزايد أن الجهات الفاعلة من غير الدولة يمكن أن تكون ملزمة، في ظل ظروف معينة، بالقانون الدولي لحقوق الإنسان”.[11] كما خلص خبراء حقوق الإنسان في الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان في بيانهم إلى أنه “يتعين، كحدّ أدنى، على الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدولة التي تمارس وظائف شبيهة بوظائف الحكومة أو تسيطر بحكم الأمر الواقع على أراضٍ وسكان، احترام حقوق الإنسان الخاصة بالأفراد والمجموعات وحمايتها”.[12]
يعتبر حظر التعذيب والعقوبة أو المعاملة القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة من القواعد الآمرة في القانون الدولي (jus cogens)، ولا يخضع هذا الحظر في هذا السياق لأي تبريرات أو قيود أو ذرائع متعلقة بالشخصية القانونية للجهة المعنية. فالحظر مطلق في زمن السلم والحرب، وينطبق على الجميع دون استثناء.
وفي هذا السياق، تحظر المادة المشتركة الثالثة من اتفاقيات جنيف المنطبقة خلال النزاعات المسلحة غير الدولية، المعاملة القاسية والتعذيب وكذلك الاعتداء على الكرامة الشخصية (المعاملة اللاإنسانية)، ولا سيما المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، وهذا الحظر يعتبر انعكاساً للقانون الدولي الإنساني العرفي.[13] والجدير بالذكر، أن مفهومي التعذيب والمعاملة اللاإنسانية المحظورين خلال النزاعات المسلحة لا يتطلبان مشاركة أو وجود مسؤول حكومي أو أي شخص آخر له سلطة في عملية التعذيب[14] على غرار ما تفرضه اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وبالتالي، يتحمل أفراد وقادة المجموعات المسلحة بصفتهم، تلك المسؤولية القانونية لارتكاب الأفعال التي ترقى للتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية دون الحاجة للمجادلة حول مسؤولية الدولة في ذلك. وارتكاب التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية خلال النزاع المسلح غير الدولي يترتب عليه مسؤولية جنائية فردية في حال استوفى الفعل أركان جريمة حرب التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية كما ورد في مواثيق المحاكم الجنائية الدولية.[15] وتجدر الإشارة إلى أن واجب المعاملة الإنسانية ينطبق في جميع الظروف ولا يخضع للضرورة العسكرية أو للتقيّد المتبادل من قبل الطرف الآخر في النزاع.[16]
كما تنص المادة 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”. وبالمثل، تلزم المادة 2 من اتفاقية مناهضة التعذيب الدول الأطراف بالامتناع عن أعمال التعذيب واتخاذ تدابير تشريعية وقضائية وإدارية فعالة لمنع أعمال التعذيب على أراضيها. تُلزم المادة 16 من اتفاقية مناهضة التعذيب الدول الأطراف بحظر ومنع الأفعال الأخرى للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي لا ترقى إلى مستوى التعذيب في نطاق ولايتها القضائية. وتنص المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أنه “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”.
وتنص المادة 2 (2) من اتفاقية مناهضة التعذيب على أنه “لا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية، سواء كانت حالة حرب أو تهديد بالحرب أو عدم استقرار سياسي داخلي أو أي حالة طوارئ عامة أخرى، كمبرر للتعذيب”. وبالمثل، توضح المادة 4 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أن الالتزام المنصوص عليه في المادة 7 (حظر التعذيب) لا يمكن الانتقاص منه في أوقات الحرب أو أي نوع من حالات الطوارئ العامة.
يُعتبر الحرمان التعسفي من الحرية محظوراً كأحد قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي،[17] وينطبق التماثل من القانون النافذ على النزاع المسلح الدولي وكذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان. وبناءً على ذلك، يجب أن يكون الحرمان من الحرية مشروعاً في القانون النافذ، ومستوفياً للإجراءات الأساسية وأهمها: وجوب إبلاغ الشخص الذي يُلقى القبض عليه بأسباب توقيفه، وجوب إحضار الشخص الموقوف بتهمة جنائية أمام قاضِ، ودون إبطاء، ووجوب توفير فرصة للشخص المحروم من حريته للطعن بقانونية الاحتجاز.[18] وفيما يخص مشروعية أسباب الحرمان من الحرية، يُستشهد عادة بالموجبات المفروضة خلال النزاع المسلح الدولي لجهة أن تقتصر أسباب هذا الحرمان على الضرورة القصوى في حال لم يكن ذلك لأسباب جنائية.[19] بالإضافة إلى ذلك، وبغض النظر عن أسباب الحرمان من الحرية، يبقى جميع أطراف النزاع مُلزَمين بمعاملة جميع الأشخاص تحت سيطرتهم بإنسانية ودون تمييز على أي أساس وفقاً للفقرة الأولى من المادة الثالثة المشتركة.
وفي سياق القانون الدولي لحقوق الإنسان، تحظر المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أعمال الاعتقال أو الاحتجاز أو النفي التعسفي. تحمي المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حق الأفراد في الحرية والأمن. وتنص كذلك في الفقرة 4 على أن “لكل شخص حرم من حريته بالاعتقال أو الاحتجاز الحق في رفع دعوى أمام محكمة لكي تبت تلك المحكمة دون إبطاء في مشروعية احتجازه، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاحتجاز غير قانوني”.
في التعليق العام رقم 35، تناولت لجنة حقوق الإنسان مدى انطباق المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على حالات النزاع المسلح، نظرًا لأن القانون الدولي الإنساني ينظم احتجاز مقاتلي العدو والمدنيين بشكل مختلف. أوضحت لجنة حقوق الإنسان أن “المادة 9 [من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية] تنطبق أيضًا في حالات النزاع المسلح” وأن القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان مجالان قانونيان متكاملان، ولا يستبعد أحدهما الآخر.
علاوةً على ذلك، في حين أن المادة 9 لم يتم تضمينها كبند غير قابل للتقييد بموجب المادة 4 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إلا أن هناك حدًا لسلطة الدولة في التقييد. وأي استثناء من المادة التاسعة (وهو ما لم يحدث في الوضع في سوريا) يجب أن يكون “مقتضيات صارمة لمقتضيات الوضع الفعلي”. وأخيراً، “إذا تم التذرع، في ظل الظروف الأكثر استثنائية، بتهديد حالي ومباشر وحتمي لتبرير احتجاز الأشخاص الذين يُعتبر أنهم يمثلون مثل هذا التهديد، فإن عبء الإثبات يقع على عاتق الدول الأطراف لإثبات أن هذا الفرد يشكل مثل هذا التهديد وأنه لا يمكن معالجته بتدابير بديلة، ويزداد هذا العبء مع طول مدة الاحتجاز. ويتعين على الدول الأطراف أيضاً أن تثبت أن الاحتجاز لا يدوم لفترة أطول مما هو ضروري فعلاً، وأن المدة الإجمالية للاحتجاز المحتمل محدودة، وأنها تحترم بالكامل الضمانات المنصوص عليها في المادة 9 في جميع الحالات.
بحكم الإجماع المتزايد حول مسؤولية المجموعات المسلحة من غير الدول حول احترام وحماية حقوق الإنسان في المناطق التي تسيطر عليها، تنطبق الأحكام الواردة أعلاه على فصائل “الجيش الوطني السوري” نظراً لواقع السيطرة المستمرة لتلك الفصائل على ما تُسمى بمناطق “نبع السلام” بالإضافة إلى مناطق “غصن الزيتون”، وقيامها بوظائف تشبه وظائف الحكومة.
[1] “حنان حسين” اسم مستعار، حيث تمّ إخفاء اسم الشاهد وجزء من المعلومات التي أدلى بها لـ “تآزر”، بناءً على طلبه، ذلك خوفاً على حياته وحياة أفراد عائلته.
[2] تتبع المجالس المحلية في عفرين للحكومة السورية المؤقتة/الائتلاف الوطني السوري المُعارض، وتُدار بإشراف وتوجيه مباشر من والي ولاية “هاتاي” التركية.
[3] نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، المادة 28.
[4] تمّ إخفاء اسم الشاهد وجزء من المعلومات التي أدلى بها لـ “تآزر”، بناءً على طلبه، ذلك خوفاً على حياته وحياة أفراد عائلته.
[5] أسلوب التعذيب المعلق، ويسمى أيضاً بـ “البلانكو”، ويقوم على ربط السجانين للمعتقلين وتعليقهم من معاصمهم بحبل يتدلى من السقف، وقد تلامس رؤوس أصابع أقدامهم الأرض فتتعرض لضغط كبير أو يبقون معلقين في الهواء ليضغط ثِقل أجسادهم بالكامل على معاصمهم، ما يؤدي لتورمها مع ألم شديد. وقد يبقى الموقوف معلقا لساعات أو لأيام مع تعرضه للضرب الشديد.
[6] التعذيب بطريقة الفروج: تُربط يدا المعتقل مع قدميه، ثم يُعلق منهما على عمود خشبي أو معدني ويُرفع عن الأرض في طريقة تحاكي شواء الدجاج، ويترافق ذلك مع ضرب المعتقل على مختلف أنحاء جسده.
[7] Official Records of the Diplomatic Conference on the Reaffirmation and Development of International Humanitarian Law applicable in Armed Conflicts, Vol. 8, CDDH/I/SR.22, Geneva, 1974–77, p. 201.
[8] Sivakumaran, The Law of Non-International Armed Conflict, (Oxford University Press, 2012), p 530.
[9] Committee Against Torture, 20th Sess., GRB. v Sweden, Communication No. 83/ 1997, UN. Doc. CAT/C/20/D/83/1997 (19 June 1998); Sheekh v Netherlands, App. No. 1948/04, HUDOC at 45 (11 January 2007); UN Secretary-General, Report of the Secretary-General’s Panel of Experts on Accountability in Sri Lanka, 243 (31 March 2011), p 188; Darragh Murray, Human Rights Obligations of Non-State Armed Groups (Hart Publishing, 2016).
[10] OHCHR, ‘International Legal Protection of Human Rights in Armed Conflict’, Geneva and New-York (2011), pp 23-27 (Available at: https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/HR_in_armed_conflict.pdf).
[11] Ibid. p. 24.
[12] OHCHR, Joint Statement by independent United Nations human rights experts on human rights responsibilities of armed non-State actors, 25 February 2021 (Available at: https://www.ohchr.org/en/press-releases/2021/02/joint-statement-independent-united-nations-human-rights-experts-human-rights?LangID=E&NewsID=26797).
[13]القاعدة 90 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر حول القانون الدولي الإنساني العرفي.
[14] ICTY, Kunarac Trial Judgment, 2001, para. 496, confirmed in Appeal Judgment, 2002, para. 148. See also Simić Trial Judgment, 2003, para. 82; Brđanin Trial Judgment, 2004, para. 488; Kvočka Appeal Judgment, 2005, para. 284; Limaj Trial Judgment, 2005, para. 240; Mrkšić Trial Judgment, 2007, para. 514; Haradinaj Retrial Judgment, 2012, para. 419; and Stanišić and ŽupljaninTrial Judgment, 2013, para. 49.
[15] نظام روما الأساسي، المادة 8 (ج)(1) و(2)؛ ميثاق المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، المادة 2(ب)؛ المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، المادة 4.
[16] ICRC 2020 Commentary on Common Article 3, para 596.
[17] القاعدة 99 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر حول القانون الدولي الإنساني العرفي.
[18] انظر على سبيل المثال، لجنة حقوق الإنسان، التعليق العام رقم 35 عام 2014.
[19] على سبيل المثال، المادتان 42 و78 من اتفاقية جنيف الرابعة.