يوثق هذا التقرير النمط المنهجي والمستمر من الاحتجاز التعسفي، الإخفاء القسري، والتعذيب، الذي تُمارسه فصائل “الجيش الوطني السوري” بدعم وتمويل مباشر من الحكومة التركية، بحق السكان في مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض شمال سوريا، كما يستعرض الآثار العميقة لهذه الانتهاكات على الضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن، مع التركيز على البعد الإنساني والاجتماعي لهذه الجرائم.
يعتمد التقرير على 18 مقابلة مباشرة مع ضحايا تعرّضوا للاحتجاز التعسفي وما صاحبه من تعذيب ومعاملة لاإنسانية في مراكز احتجاز تابعة لفصائل “الجيش الوطني السوري” المرتبطة بالحكومة السورية المؤقتة وائتلاف قوى الثورة والمعارضة السورية. تكشف الشهادات عن انتهاكات منهجية تستهدف مدنيين دون أي أدلة قانونية أو محاكمات عادلة، في إطار سياسة تهدف إلى ترسيخ السيطرة على المنطقة وسكانها.
تُبرز الشهادات الآثار الجسدية والنفسية الناتجة عن هذه الانتهاكات؛ مثل الإصابات الدائمة والتشوّهات الجسدية، واضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، القلق المزمن، والاكتئاب، ومشكلات نفسية أخرى تُصاحب الناجين/ات على المدى الطويل. كما تعكس الأثر المجتمعي الأوسع للاعتقال، والذي يتجلى في الوصمة الاجتماعية، تشوّه السمعة، فقدان فرص العمل، والصعوبات الاقتصادية.
يؤكد التقرير أنّ معظم حالات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري جاءت بناءً على اتهامات مشكوك في صحتها بالتعاون مع الإدارة الذاتية أو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) أو الضلوع في أعمال إرهابية مزعومة. وتُظهر الانتهاكات غياب الأسس القانونية، واستخدام الاعتقال التعسفي كأداة للقمع السياسي والاجتماعي.
تُظهر الشهادات بوضوح أن هذه التهم كانت تُستخدم كوسيلة للضغط والابتزاز، حيث أُفرج عن الضحايا بعد دفع فدى مالية أو بعد احتجازهم لعدة أشهر دون توجيه اتهامات مثبتة ضدهم. أفاد بعض الضحايا أنّ الهدف الأساسي من هذه الممارسات كان إجبارهم على ترك منازلهم وممتلكاتهم، والتي تمت مصادرتها ونهبها لاحقاً.
علاوةً على ذلك، يُبرز التقرير الفجوة القائمة في آليات العدالة والمساءلة في هذه المناطق، مما يسمح للجناة بالإفلات من العقاب وسط بيئة من الفوضى والصراع. وفي المقابل، يواجه الضحايا وأسرهم نقصاً في الدعم القانوني، النفسي، والاجتماعي، مما يفاقم معاناتهم.
يهدف التقرير إلى إبراز حجم المعاناة الإنسانية الناتجة عن الاحتجاز التعسفي، التعذيب، والاختفاء القسري، مع تقديم توصيات محددة لتعزيز آليات الحماية القانونية، تقديم الدعم اللازم للضحايا وعائلاتهم، وضمان محاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات لتحقيق العدالة ومنع تكرارها.
يمثل الاحتجاز التعسفي، التعذيب، والإخفاء القسري، أحد أخطر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، إذ لا تقتصر آثارها المدمرة على فترة الاحتجاز، بل تمتد لتترك ندوباً جسدية ونفسية عميقة وطويلة الأمد لدى الضحايا وأسرهم ومجتمعاتهم. هذه الممارسات ليست مجرد انتهاكات فردية، بل تُعدّ أداة ممنهجة تُستخدم للسيطرة السياسية والاجتماعية، كما يظهر جلياً في مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض شمال سوريا.
تُجسد شهادة “هناء[1]” (26 عاماً)، النازحة قسراً من مدينة رأس العين/سري كانيه، مثالاً مؤلماً على المعاناة التي يتعرض لها المحتجزين/ات. حيث تعرضت “هناء” أثناء احتجازها لدى فصائل “الجيش الوطني السوري” لشتى أنواع التعذيب، بما في ذلك الضرب بالخراطيم البلاستيكية (المعروفة بـ”الأخضر الإبراهيمي”)، الحرمان من الغذاء والرعاية الصحية، إضافةً إلى العنف النفسي من خلال التهديد المستمر بالإعدام.
كانت ظروف الاحتجاز التي عانت منها “هناء” أشبه بجحيم يومي، حيث كانت تُحتجز مع أخريات في زنزانة باردة ومظلمة تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة الأساسية، مما أدى إلى إصابتهن بمضاعفات صحية خطيرة (نزيف والتهابات حادة) تُركت دون علاج.
ولم يتوقف الأمر عند التعذيب الجسدي، بل امتد إلى الإذلال النفسي؛ حيث أُجبرت “هناء” على مشاهدة تعذيب معتقلين آخرين بوحشية، مع تهديد مستمر بأن تلقى المصير ذاته إنّ لم “تعترف” باتهامات ملفّقة.
ورغم إطلاق سراحها بعد شهر، لم تنتهِ معاناة “هناء” عند هذا الحد؛ إذ واجهت وصمة اجتماعية قاسية من مجتمعها، وبدلاً من أنّ يُقدم لها الدعم، تعرضت للتنمر والتشكيك في شرفها، مما دفعها إلى عزلة نفسية واجتماعية خانقة، لتصبح ضحية مزدوجة، تعاني من آثار التعذيب الجسدي والإذلال النفسي، إلى جانب الإقصاء المجتمعي.
تُبرز هذه التجربة الآثار المدمرة لهذه الانتهاكات، سواءً على المستوى الفردي أو المجتمعي، وتعزز الحاجة الملحة إلى تعزيز آليات العدالة والمساءلة لضمان محاسبة الجناة وإنصاف الضحايا، بالإضافة إلى توفير برامج شاملة لدعم الناجين/ات، تشمل الدعم النفسي والاجتماعي وإعادة الإدماج المجتمعي، لضمان أن تكون العدالة جزءاً أساسياً من عملية التعافي.
في 9 تشرين الأول/أكتوبر 2019، بدأت تركيا عمليتها العسكرية التي سُميت “نبع السلام”، حيث شنت ضربات جوية وقصفاً مدفعياً على المنطقة الممتدة بين رأس العين/سري كانيه وتل أبيض، مع تأثيرات وصلت إلى مناطق مثل كوباني والقامشلي. أعلن الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” العملية بشكل علني، ونُفذت بمشاركة جماعات مسلحة غير حكومية خاضعة للسيطرة التركية، أبرزها فرقة السلطان مراد، وفرقة الحمزة (المعروفة أيضاً باسم “الحمزات”)، وتجمع أحرار الشرقية (أحرار الشرقية)، والجبهة الشامية وغيرها.
خلال الأيام الأولى من العملية، نزح أكثر من 180,000 شخص، بمن فيهم آلاف النساء والأطفال، في موجات فوضوية، وفقاً لتقارير الأمم المتحدة.[2] وبحلول نهاية العملية في 22 تشرين الأول/أكتوبر 2019، كانت تركيا ووكلاؤها من “الجيش الوطني السوري” قد سيطروا على شريط حدودي يبلغ طوله حوالي 120 كيلومتراً وعرضه 30 كيلومتراً، ممتداً من رأس العين/سري كانيه إلى تل أبيض. وخلّفت أزمة النزوح أكثر من 175,000 شخص بلا مأوى، وفقاً للجنة التحقيق الدولية المستقلة بشأن سوريا.[3]
من الجدير بالذكر أن لجنة التحقيق الدولية وثقت تعرض المدنيين في رأس العين/سري كانيه وتل أبيض لانتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي، مما يعكس أنماطاً من الانتهاكات سُجلت سابقاً في منطقة عفرين. تشمل هذه الانتهاكات الاختطاف، والاحتجاز، والابتزاز، والتعذيب، والاغتصاب، ومصادرة الممتلكات، والتي غالباً ما تُرتكب دون مساءلة. وتُظهر نتائج اللجنة في هذا الصدد سياسة ممنهجة ومستدامة تتبعها الجماعات المسلحة المبلغ عنها وتنفذها باستمرار.[4]
يعتمد التقرير على تحليل مُمنهج ومفصل لشهادات موثّقة قدمها 18 شخصاً (15 ناجِ، و3 ناجيات) من الاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب لدى فصائل “الجيش الوطني السوري”. تمت عملية جمع الشهادات بين شهري آذار/مارس وأيلول/سبتمبر 2024 باستخدام طُرق متنوعة لضمان دقة وشمولية المعلومات. تضمنت المنهجية مقابلات مباشرة وأخرى عن بُعد مع الناجين/ات أو مع أفراد عائلاتهم/ن، مع مراعاة معايير الخصوصية والأمان لضمان حماية المشاركين في التقرير.
تمثل الشهادات الموثقة عينة متنوعة، تشمل 14 ضحية من القومية الكردية، وثلاثة من القومية العربية، وضحية واحدة من الأرمن. اعتمدت المقابلات نهجاً يراعي حساسية التجارب التي مرّ بها الناجون/ات، مع الالتزام بمبادئ النزاهة والحياد، وأخذ موافقة مستنيرة من جميع المشاركين/ات لاستخدام شهاداتهم/ن في التقرير. لضمان حماية الخصوصية، تمّ استخدام أسماء مستعارة في جميع الحالات بناءً على طلب الضحايا والشهود.
خضعت جمع الشهادات البيانات لعملية تحقّق دقيقة شملت تقاطع المعلومات مع مصادر موثوقة أخرى، وتمّ تعزيز النتائج من خلال الخبرة الواسعة في توثيق حقوق الإنسان، والتعاون مع منظمات دولية، وباحثين ميدانيين وناشطين، ومصادر معلومات أخرى، بما في ذلك تقارير الأمم المتحدة ومنظمات حقوقية مستقلة.
تمّ تنظيم وتحليل الشهادات لتحديد الأنماط المشتركة في ظروف وأساليب الاحتجاز، وكذلك الآثار الناتجة عنها. ركز التحليل على فهم السياقات التي وقعت فيها هذه الانتهاكات والدوافع السياسية والاجتماعية التي تقف خلفها. أظهر التقرير أن الاحتجاز التعسفي كان جزءاً من سياسة منهجية تهدف إلى فرض السيطرة وترهيب السكان الأصليين، لا سيما الكُرد، وحرمانهم من حقوقهم الأساسية.
أولت المنهجية اهتماماً خاصاً لتوثيق تجارب النساء الناجيات، نظراً لطبيعة الانتهاكات التي تعرضن لها، والتي غالباً ما تتسم بالعنف القائم على النوع الاجتماعي. تضمنت الشهادات توثيقاً لحالات تعرضت فيها النساء للإذلال النفسي والجسدي، بما في ذلك التهديد بالعنف الجنسي، مما يبرز الحاجة الملحة لتقديم دعم نفسي واجتماعي خاص لهذه الفئة من الناجين/ات.
رغم التحديات التي واجهتها عملية التوثيق، مثل صعوبة الوصول إلى بعض المناطق بسبب انعدام الأمان وغياب التعاون من الجهات المسيطرة، يقدم التقرير صورة شاملة ومتكاملة عن الانتهاكات. يهدف هذا النهج إلى تعزيز الوعي بانتهاكات حقوق الإنسان في المنطقة، والمساهمة في وضع آليات لحماية الضحايا وضمان مساءلة المسؤولين عن هذه الجرائم.
لم يتم إبلاغ أي من الضحايا بشكل فوري عن أسباب احتجازهم. تم اعتقال معظمهم من منازلهم، بينما اختطف آخرون أثناء تنقلهم أو أثناء ممارسة أنشطتهم اليومية، مثل إدارة أعمالهم. كما اعتقل العديد من الشهود أثناء محاولتهم عبور الحدود إلى تركيا في إطار الهجرة. ورغم ذلك، وُجهت إليهم لاحقاً اتهامات مزعومة بالتعاون مع الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، أو الانتماء إلى قوات سوريا الديمقراطية، أو التورط في أعمال إرهابية أو تخريبية.
ورغم هذه الاتهامات، لم يُعرض معظم المحتجزين على المحاكم أو تُمنح لهم فرصة اللجوء القانوني. بدلاً من ذلك، غالباً ما تم الإفراج عنهم فقط بعد دفع فدية أو التنازل عن ممتلكاتهم. بالإضافة إلى ذلك، أولئك الذين مثلوا أمام المحكمة أُجبروا على دفع رشاوى أو وُجهت إليهم اتهامات من القضاة بتلفيق ادعاءات بشأن التعذيب وسوء المعاملة. أُجبر جميع المحتجزين على توقيع أوراق فارغة أو معدة مسبقاً، والتي تم تقديمها لاحقاً للقضاة على أنها اعترافات.
تعرّض ثمانية من الضحايا الذين قابلتهم “تآزر” لخسائر مبالغ مالية كبيرة، تراوحت بين 1,000 حتى 10,000 دولار، وقد بلغ مجموع الأموال المُصادرة من الضحايا -التي كانت أحيانا بالدولار وأحيانا بالليرة السورية أو مصاغ ذهبي- أكثر من 42 ألف دولار.
وقد تمّ جمع هذه الأموال بأساليب تعكس حالة الفوضى وانعدام المحاسبة في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”، بما في ذلك:
- السرقة أثناء الاحتجاز: أبلغ الضحايا عن مصادرة أموالهم وممتلكاتهم أثناء فترة احتجازهم، بما في ذلك أكثر من 12,000 دولار نقداً وهواتف محمولة ومقتنيات شخصية أخرى.
- المداهمات وسرقة المنازل: تمت سرقة أموال ومصوغات ذهبية من منازل الضحايا أثناء المداهمات، بلغت قيمتها في بعض الحالات آلاف الدولارات.
- الفدى المالية المباشرة: أُجبر ذوو الضحايا على دفع مبالغ مالية كبيرة لضمان إطلاق سراحهم.
في إحدى القرى الواقعة في ريف مدينة رأس العين/سري كانيه، شنت فصائل “الجيش الوطني السوري” حملة اعتقالات واسعة شملت 25 شخصاً من السكان الكُرد. اتُهم المعتقلون بتنفيذ تفجيرات في المدينة دون تقديم أدلة واضحة. قال عاصم (41 عاماً)، أحد الضحايا:
“سرقوا من منزلي حوالي 800 دولار، وهو مبلغ صغير مقارنة بسرقة مصوغات ذهبية وأموال من جيراننا بقيمة تصل إلى 6,000 دولار. لكن الأصعب كان إجبارنا على ترك القرية بالكامل.”
اضطرت العائلات الكُردية في القرية إلى النزوح باتجاه الحسكة بعد بيع مواشيها بأسعار زهيدة. وبحسب سناء (42 عاماً)، إحدى النازحات:
“عندما تواصلنا مع سكان المنطقة، صدمنا بأن جميع منازلنا هُدمت كعقاب جماعي، وسُرقت أعمدة الخشب منها.”
في صيف 2020، حاول “محمود” (35 عاماً) العودة إلى أرضه في الريف الغربي لرأس العين/سري كانيه لحصاد محصول القمح الذي زرعه. إلا أنّ عناصر من فصيل “أحرار الشرقية” اعترضوه واتهموه بالتعاون مع الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية. لم يُطلق سراح “محمود” إلا بعد دفع فدية مالية ضخمة، فيما سُرق محصوله بالكامل. قدّر محمود خسائره، بما في ذلك قيمة القمح المسروق، بأكثر من 2,500 دولار وفق أسعار السوق حينها.
تكشف الشهادات التي وثّقتها “تآزر” عن مدى قسوة وظروف الاحتجاز في سجون “الجيش الوطني السوري”، التي تتسم غالباً بالاكتظاظ وسوء التهوية والنظافة، وتفتقر إلى أبسط مقومات الحياة، كما يُجمع الضحايا على أنّ الطعام كان محدوداً، يقتصر على وجبة واحدة -سيئة الجودة- يومياً، إلى جانب تفشي الأمراض، مثل الجرب، نتيجة الإهمال الصحي المتعمد.
تُظهر الشهادات أيضاً أن التعذيب كان جزءاً منهجياً من تجربة الاحتجاز، حيث تتنوع أساليبه بين الضرب المبرح باستخدام خراطيم بلاستيكية، والصدمات الكهربائية، والحرمان من النوم، والتعليق لفترات طويلة، وصولاً إلى أفعال أخرى تهدف إلى إذلال الضحايا وكسر إرادتهم. تترك هذه الممارسات آثاراً جسدية، مثل الكسور والتشوهات، وأخرى نفسية قد تستمر مدى الحياة.
-
الإخفاء القسري: مصير مجهول وضغط نفسي هائل
إلى جانب ظروف الاحتجاز المزرية والتعذيب، عانى العديد من الضحايا من الإخفاء القسري، حيث حُرموا من التواصل مع عائلاتهم، واحتُجزوا لفترات طويلة دون إبلاغ ذويهم بمكان وجودهم أو التهم الموجهة إليهم.
قالت هناء (26 عاماً): “لم يكن لدي أي فكرة عن مكان احتجازي، ولم يسمحوا لي بالتواصل مع عائلتي. كانوا يهددونني بالإعدام إذا حاولت السؤال عن مصيري“.
عبد الباقي، شاب في الخامسة والثلاثين من عمره، تمثل قصته المؤلمة طبيعة الانتهاكات الجسيمة التي يواجهها المدنيون في شمال سوريا. أصيب عبد الباقي بكسر في قدمه أثناء محاولته عبور الحدود التركية طلباً للجوء. بدلاً من تلقي الرعاية الصحية، تعرض للضرب المبرح من حرس الحدود التركي، ثم تمّ تسليمه للشرطة العسكرية التابعة للجيش الوطني السوري. تفاقمت حالته الصحية نتيجة الإهمال المتعمد، مما أدى إلى بتر قدمه بعد شهر من الحادثة.
بدأت قصة “عبد الباقي” عندما قرر محاولة العبور إلى تركيا -بطريقة غير نظامية- من مدينة رأس العين/سري كانيه، بهدف الوصول إلى أوروبا بحثاً عن الأمان واللجوء. لسوء حظه، تعرض لإصابة بالغة عندما كُسرت قدمه أثناء قفزه من فوق الجدار الحدودي العازل الذي يبلغ ارتفاعه أربعة أمتار.
بدلاً من تلقي العلاج اللازم، تعرض عبد الباقي للضرب المبرح من قبل حرس الحدود التركي (الجندرما)، الذين أجبروا المجموعة التي كان برفقتها على النوم على الأسفلت في البرد القارس. لاحقاً، تمّ تسليمهم إلى الشرطة المدنية التابعة لفصائل “الجيش الوطني السوري”. تفاقمت حالة قدم “عبد الباقي” المكسورة بسبب الإهمال، ومع تدخل وسطاء، قبلت “الشرطة المدنية” نقله إلى المستشفى الوطني في رأس العين/سري كانيه، حيث أُجريت له صورة شعاعية. نصح الأطباء بإجراء عملية فورية لقدمه في تركيا.
لكن المعاملة الرسمية على الحدود السورية-التركية انتهت بعدم قبول أوراقه الثبوتية، واتهامه من قبل حرس الحدود بالانتماء إلى قوات سوريا الديمقراطية، مما أدى إلى تسليمه إلى قوات “الشرطة العسكرية” التابعة للجيش الوطني السوري، لتبدأ رحلة عذاب جديدة، حيث تم التحقيق معه مجدداً بحضور ضابط تركي ومترجم، قال عبد الباقي:
“لقد ضربني الضابط التركي لمدة طويلة ركلاً وعبر كابل رباعي، ولم يتوانى عن ضرب قدمي المكسورة لمرات متتالية وبقصد الإيذاء، وفهمت من كلامه أنّه يقوم بالشتم والتهديد بقطع رجلي”.
احتُجز “عبد الباقي” 16 يوماً، كانت كافية لتغيير حياته، حيث لم يستطع تحمل التعذيب، واضطر إلى ودفع فدية بلغت ألف دولار أمريكي مقابل إطلاق سراحه، وقد تفاقمت إصابته نتيجة الإهمال الطبي أثناء الاحتجاز، مما استدعى بتر قدمه بعد أكثر من شهر. منذ حينها، يعيش “عبد الباقي” معاناة نفسية وجسدية شديدة نتيجة تجربته المريرة.
يروي “سالم” (37 عاماً) تجربته المريرة خلال فترة التحقيق التي استمرت لشهر ونصف في زنزانة منفردة. كانت تلك الزنزانة صغيرة جداً، بالكاد تتسع لشخص واحد، وخالية من التهوية والنظافة. تعرض “سالم” للتعذيب يومياً، ليُنقل لاحقاً إلى ما يُعرف بـ”غرفة التأديب” مع ستة معتقلين آخرين. يقول سالم:
“كنا نشرب الماء من خرطوم المرحاض، وكانت الغرفة ضيقة للغاية، ومع ذلك كنا نتكدس فيها وسط قذارة وانعدام التهوية. الظروف كانت كارثية، لا طعام كافٍ، ولا أي احترام لإنسانيتنا“.
يصف سالم تلك الفترة بأنها كانت اختباراً لقوة التحمل البدنية والنفسية، حيث لم يكن هناك أي أمل سوى البقاء على قيد الحياة.
واجه عبد الله (28 عاماً) ظروفاً مشابهة، حيث كان الطعام المقدم للمحتجزين يقتصر على وجبة واحدة يومياً، جودتها سيئة جداً، وغالباً ما كانت تُقدم مصحوبةً بإهانات قاسية من الحراس. ومع أنّ ظروف الاحتجاز كانت مزرية في الأحوال الاعتيادية، إلا أنّها كانت أشدّ في فترات التحقيق، التي تطول أحيانا لأشهر. وقال أحد الشهود حول ذلك:
“أحيانا كانوا يقومون بتجويعي لعدة أيام، ونتيجة الجوع كنتُ أنتظر إلى أن يقوموا بوضع أكياس من القمامة بداخل السجن لكي آكل ما بداخلها من بقايا طعام متعفّن في الغالب”.
استمرت جلسات التعذيب يومياً لعدة ساعات على مدار 15 يوماً، مما جعله يشعر بأن الموت قد يكون أرحم من هذا الجحيم:
“في أحد المرات تمّ تعذيبي من خلال إدخال رأسي في كيس وربطه عند منطقة الرقبة، إلى أن تقطع نفسي وأحسستُ بالاختناق، وأثناء التعذيب في الحالات الأخرى كانوا يقومون بعصب عيني، ويتناوب أكثر من شخص على تعذيبي”.
وتمثّل قصة “عبد الحميد” جانباً من مُمارسات تعذيب المعتقلين/ات بطرق قاسية بهدف كسر إرادتهم/ن ودفعهم/ن للاعتراف باتهامات ملفقة، حيث تمّ تهديده بالاعتداء الجنسي على زوجته، كما لجأوا إلى ضربه في مناطق حسّاسة من جسده بقصد التأثير على الإنجاب، وسكب الماء المغلي على جسده.
يتذكر “عبد الحميد” أحد أصعب لحظاته عندما تم تقييده بسلسلة معدنية وسحبه خلف سيارة بيك آب لمدة 15 دقيقة. أضاف:
“تم ربطي بزنجير بعد أن عصبوا عيني، وقاموا بجرّي خلف سيارة بيك آب، لمدة 15 دقيقة. بعد ذلك قاموا بصعقي بالكهرباء عدة مرات، إما على الرأس، أو عبر صعق الماء المسكوب على الأرض، كما كانوا يجرحون جسدي بالشفرات ويرشّون الملح على الجروح لإحداث أقصى درجات الألم”.
وفي حين كانت ظروف الاعتقال المزرية عاملاً نفسياً وجسدياً إضافياً لمعاناة الضحايا، فإنّهم جميعهم أبلغوا في شهاداتهم عن تعرّضهم للتعذيب بأشكال قاسية ومتكرّرة ومُمنهجة، تُذكّر بالأساليب المُتبعة في سجون النظام السوري سيئة الصيت.
إلى جانب القصص الفردية، تكشف الشهادات عن أساليب تعذيب شائعة في مراكز الاحتجاز التي تديرها قوات “الجيش الوطني السوري”، تشمل التعذيب الجسدي، الحرمان من النوم، والإساءات اللفظية، التي كانت تهدف إلى إذلال المحتجزين/ات وترهيبهم/ن، فيما كان الكُرد، على وجه الخصوص، معرضون لإهانات عرقية وأشكال أخرى من الإساءة العنصرية.
كانت أساليب التعذيب التي وصفها الضحايا متنوعة ولكنها قاسية بشكل لافت، وتشمل الضرب بالعصي والأسلاك الكهربائية وأعقاب البنادق، التعليق من السقف، الحرق بالسجائر، وإجبارهم على اتخاذ أوضاع مؤلمة مثل “الشبح”.
ويُعرف “الشبح” كطريقة للتعذيب بالتعليق (معروفة أيضاً باسم “بلانكو”) حيث يقوم السجّانون بتعليق المحتجزين من معاصمهم باستخدام حبال تتدلى من السقف، مما يجبر المحتجز على الوقوف على أطراف أصابع قدميه، حيث يتعرض لضغط شديد. في بعض الحالات، يظل المحتجز معلقاً في الهواء بحيث يضغط وزن جسده على معصميه، مما يؤدي إلى تورمهما ويسبب آلاماً شديدة. قد يبقى المحتجزون في هذا الوضع لساعات أو أحياناً أيام، مصحوباً بضرب مبرح.
وكذلك وضعية التعليق بطريقة “الفروج” حيث تُربط يدا المعتقل مع قدميه، ثم يعلّق منهما على عمود خشبي أو معدني ويرفع عن الأرض، في مشهد يشبه شواء الدجاج. أثناء ذلك، يتم ضرب المعتقل بعنف على مختلف أنحاء جسده، بما في ذلك الضرب بالخرطوم الأخضر (وهو خرطوم مصنوع من البلاستيك ويستخدم في التمديدات الصحية والسباكة).
تتفق جميع الشهادات على أن التعذيب لم يكن مجرد وسيلة لتحقيق مكاسب معلوماتية، بل كان أداة للإذلال والسيطرة النفسية على الضحايا، مما يترك آثاراً عميقة تدوم مدى الحياة.
تكشف شهادات ثلاث ناجيات من الاحتجاز لدى فصائل “الجيش الوطني السوري” عن تعرضهن لانتهاكات جسدية ونفسية قاسية، تضمنت أشكالاً من التمييز القائم على النوع الاجتماعي. تمثلت هذه الانتهاكات في غياب أي اعتبار لاحتياجاتهن كنساء، حيث كان جميع المحققين والحراس من الرجال، مما فاقم من حدة التجربة القاسية التي مررن بها.
ذكرت هناء (26 عاماً) أنها كانت محتجزة مع ثلاث نساء أخريات، وتعرضن للضرب المبرح بالخراطيم والركل، مما تسبب لهن بنزيف حاد دون تلقي أي علاج طبي. كما لم تُقدم لهن أي منتجات صحية نسائية، وحُرمن من الاستحمام لفترات طويلة، مما أدى إلى التهابات بولية وتحسسات جلدية. بعد الإفراج عنها، عانت هناء من العار الاجتماعي بسبب الشائعات التي طالت سمعتها، حيث ادُعي بأنها تعرضت للاغتصاب أثناء الاحتجاز. هذا الوضع دفعها إلى الانعزال والانطواء لفترة طويلة، لتفادي الوصمة المجتمعية.
وتحدثت سناء (42 عاماً) عن معاناتها من صدمات كهربائية وركل وحرمان من الطعام ليومين متتالين، فضلاً عن تلقيها شتائم ذات طابع جنسي أثناء التحقيق. أُجبرت سناء، وأخريات معها، على سماع أصوات تعذيب المعتقلين الرجال، مما زاد من الأثر النفسي لاحتجازهن. بعد إطلاق سراحها، اضطرت سناء وعائلتها إلى النزوح وبيع ممتلكاتهم هرباً من المنطقة، بينما يعاني ابنها من صدمة نفسية شديدة تسببت في إصابته بالتأتأة والخوف المزمن.
وفضلا عن التعذيب بالركل والضرب بخرطوم السباكة الأخضر، قالت صافية (20 عاماً)، التي اعتُقلت وهي في التاسعة عشرة من عمرها، تحدثت عن تعرضها للإهانات العنصرية المتكررة من قبل عناصر الشرطة العسكرية أثناء احتجازها، حيث وصفت بـ”الخنزيرة” و”ذيل النظام المجرم”. كما شهدت اعتداءً عنيفاً على والدها أثناء اعتقالهما، وحرمانها من الطعام لمدة 24 ساعة. وأفادت بسرقة ممتلكاتها، التي بلغت قيمتها 600 دولار.
تمكن العديد من الضحايا من التعرف على الأفراد المتورطين في احتجازهم وإساءة معاملتهم، إما من خلال التعرف المباشر أو بناءً على المعلومات التي قدمها لهم الجناة. تمكن بعض الضحايا من تحديد هوية خاطفيهم استناداً إلى الانتماءات أو الشعارات الموجودة على المركبات، بينما تمّ إبلاغ آخرين بانتماءات الجناة الفصائلية من قبل الخاطفين أنفسهم. ومع ذلك، لم يتمكن بعض الضحايا من التعرف على خاطفيهم بسبب تعصيب أعينهم أو استخدام وسائل أخرى لمنعهم من التعرف عليهم.
يشير تحليل الشهادات والأدلة المؤيدة إلى أن هذه الانتهاكات تشكل جزءاً من نظام أكبر ومنسق بقيادة الجيش الوطني السوري، يشمل فصائله المختلفة مثل الشرطة المدنية، الشرطة العسكرية، والقضاء. الفصائل والكيانات التابعة للجيش الوطني السوري التي حددها الضحايا تشمل فرقة الحمزة (الحمزات)، فرقة السلطان مراد، الشرطة العسكرية، أحرار الشرقية، أحرار الشام، والجبهة الشامية.
وثقت هيئات الأمم المتحدة ومنظمات حقوق الإنسان الدولية أنماطاً مماثلة من الانتهاكات ضد المدنيين في المناطق الخاضعة لسيطرة هذه الفصائل، لا سيما في عفرين ومناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض. تشمل هذه الانتهاكات الاعتقال التعسفي الواسع النطاق، التهجير القسري، الابتزاز، التعذيب، والعنف الجنسي، خاصةً ضد السكان الكرد.
تشير الأدلة إلى أن هذه الانتهاكات قد تشكل خروقات منهجية للقانون الإنساني الدولي (IHL) والقانون الدولي لحقوق الإنسان (IHRL). ويبدو أن نمط الانتهاكات، بدءاً من الاحتجاز التعسفي والنهب وصولاً إلى الاضطهاد العرقي، هو جزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى تهجير السكان الأصليين، وخاصة الكرد، ومنع عودتهم. تعكس هذه الاستراتيجية الممارسات التي لوحظت خلال عملية “غصن الزيتون” التركية في عفرين، والتي توسعت لاحقاً إلى مناطق عملية “نبع السلام” التركية.
ينظم القانون الإنساني الدولي سلوك جميع أطراف النزاع المسلح، بما في ذلك الجماعات المسلحة غير الحكومية. إنّ الجماعات المسلحة التي تسيطر على أراضٍ أو سكان نتيجة انخراطها في نزاع مسلح غير دولي مُلزمة بأحكام القانون الإنساني الدولي التي تهدف إلى حماية المدنيين من الأعمال التعسفية في غياب سيطرة الدولة.[5] ويتعين عليها احترام مجموعة واسعة من الحقوق، بما في ذلك حماية الجرحى والمرضى والمرافق الطبية، وكذلك المعاملة الإنسانية للأسرى والمحتجزين. ويجب عليها الامتناع عن ممارسات مثل العقاب الجماعي، النهب، الانتقام، وأخذ الرهائن، وضمان أن أي نزوح قسري أو ترحيل يتم وفقاً للقانون الدولي.[6]
يتزايد الاعتراف بالتزامات الجماعات المسلحة غير الحكومية بموجب القانون الدولي، ولا سيما فيما يتعلق بالقانون الدولي لحقوق الإنسان. وبينما تظل الدول هي المسؤولة الرئيسية عن حقوق الإنسان، تُعتبر الجماعات المسلحة التي تمارس السيطرة على أراضٍ مسؤولة بشكل متزايد عن حماية حقوق الإنسان داخل مناطق نفوذها.[7] وقد أكدت الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان أن الجماعات المسلحة التي تسيطر على أراضٍ يجب أن تحترم حقوق الإنسان،[8] لا سيما عندما تعمل بطرق مشابهة للحكومات.[9] وتشمل هذه الواجبات ضمان حماية الحقوق الفردية والجماعية للمدنيين تحت سلطتها.
يحظر القانون الدولي العرفي التعذيب والمعاملة اللاإنسانية بشكل مطلق، بغض النظر عن الظروف، بما في ذلك أثناء النزاعات المسلحة. ينطبق هذا الحظر المطلق على جميع الأطراف، سواء كانت دولاً أو جماعات غير حكومية، وهو مُكرس كقاعدة آمرة، مما يعني أنه لا يمكن التنازل عنه. تنص المادة المشتركة الثالثة من اتفاقيات جنيف، التي تنطبق على النزاعات المسلحة غير الدولية، على المعاملة الإنسانية لجميع الأشخاص الذين لا يشاركون بشكل مباشر في الأعمال العدائية، وتحظر صراحة التعذيب والمعاملة اللاإنسانية، بما في ذلك الأعمال المهينة أو الحاطة بالكرامة.[10]
تلتزم الجماعات المسلحة غير الحكومية بهذه القواعد حتى في غياب تورط الدولة. وتخضع أعمال التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية التي ترتكبها الجماعات المسلحة، مثل تلك التي تُمارس أثناء الاستجوابات أو الاحتجاز، للمسؤولية الجنائية الفردية، بغض النظر عما إذا كانت معتمدة أو منفذة من قبل الدولة.[11] لا يسمح القانون الدولي للجماعات المسلحة غير الحكومية بتبرير مثل هذه الانتهاكات بناءً على الضرورة العسكرية، ولا يجيز استخدام الانتقام أو أشكال الثأر الأخرى كتبريرات للتعذيب أو سوء المعاملة.[12]
توضح الأدوات الدولية الرئيسية، مثل المادة 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، اتفاقية مناهضة التعذيب، والمادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، أن حظر التعذيب والمعاملة اللاإنسانية غير قابل للتفاوض. تؤكد المادة 2(2) من اتفاقية مناهضة التعذيب أن الظروف الاستثنائية لا يمكن أن تبرر أفعال التعذيب، وبالمثل، تحظر المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التعذيب تحت أي ظرف، بما في ذلك أثناء الحروب أو حالات الطوارئ العامة.
يحظر القانون الدولي الحرمان التعسفي من الحرية في كل من النزاعات المسلحة الدولية وغير الدولية. يطالب القانون الإنساني الدولي العرفي،[13] بالتعاون مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، بأن يكون أي اعتقال أو احتجاز قانونياً وخاضعاً للرقابة القضائية. على وجه الخصوص، يجب إبلاغ المحتجزين بالتهم الموجهة إليهم ومنحهم الحق في الطعن في قانونية احتجازهم أمام محكمة مختصة.[14] الجماعات المسلحة غير الحكومية، بصفتها جهات غير حكومية تمارس السيطرة على أراضٍ، مُلزمة أيضاً بهذه الحماية لضمان عدم حدوث الاحتجاز التعسفي داخل مناطق نفوذها.
تحظر المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الاعتقال التعسفي والاحتجاز والنفي، وتضمن أن يتم أي حرمان من الحرية وفقاً للقانون. بالإضافة إلى ذلك، تمنح المادة 9(4) من العهد الدولي الأفراد الحق في اتخاذ إجراءات أمام محكمة لتحديد قانونية احتجازهم وضمان الإفراج عنهم إذا ثبت أن احتجازهم غير قانوني.
تؤكد التعليق العام رقم 35 للجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة أن الحماية المنصوص عليها في المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تنطبق حتى في حالات النزاع المسلح، حيث يتداخل القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان. في حالات النزاع المسلح، يجب على الدول والجماعات المسلحة احترام حقوق الحرية والأمن للأشخاص الخاضعين لسيطرتهم. وبينما تمتلك الدول القدرة على التنازل عن بعض الحقوق بموجب المادة 4 من العهد الدولي خلال حالات الطوارئ، يجب أن يكون أي تنازل عن الحماية ضد الاحتجاز التعسفي محدداً بدقة ومبرراً بالضرورة.
يبقى مبدأ الرقابة القضائية على الاحتجاز أساسياً، ويجب على الدول (وبالتالي الجماعات المسلحة غير الحكومية) ضمان عدم تمديد الاحتجاز إلى ما يتجاوز الضرورة المطلقة. تقع مسؤولية إثبات شرعية الاحتجاز على عاتق السلطة المحتجزة، وتصبح هذه المسؤولية أكثر صرامة مع استمرار الاحتجاز. كما يجب على الدول والجماعات المسلحة ضمان المعاملة الإنسانية للمحتجزين في جميع الأوقات، بما يتماشى مع المادة المشتركة الثالثة من اتفاقيات جنيف.
يعزز الفهم المتطور لالتزامات الجماعات المسلحة غير الحكومية باحترام حقوق الإنسان أهمية الالتزام بهذه الحماية الدولية في مناطق النزاع. ومع استمرار هذه الجماعات في حكم أراضٍ، كما هو الحال في مناطق مثل “نبع السلام” و”غصن الزيتون”، يجب عليها تحمل مسؤولية ضمان حماية حقوق الإنسان للمدنيين الخاضعين لسيطرتها. تشمل هذه الالتزامات الحماية من التعذيب، المعاملة اللاإنسانية، الاحتجاز التعسفي، وغيرها من انتهاكات حقوق الإنسان، بغض النظر عن قدرة الدولة على حماية هذه الحقوق أو فرضها.
نظراً لخطورة الانتهاكات المرتكبة وغياب الحماية القانونية لمئات الآلاف من المدنيين المعرضين للخطر، سواء كضحايا حاليين أو محتملين على مدى فترة طويلة. يجب أن تدرك فصائل “الجيش الوطني السوري” التي تسيطر على مناطق من شمال سوريا بأنها لا تتمتع بالإفلات من العقاب وأنها ملزمة باحترام وحماية حقوق الإنسان للسكان تحت سيطرتها.
عقب سقوط النظام السوري، يوم 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، تشكل هذه التوصيات خريطة طريق عملية لتعزيز حماية حقوق الإنسان في مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض، مع ضمان محاسبة الجناة وتحقيق العدالة للضحايا. يجب أن تكون هذه الجهود جزءاً من استجابة دولية شاملة لضمان وقف الانتهاكات وتوفير الحماية المستدامة للسكان المتضررين.
توصيات للأمم المتحدة وحكومات الدول الأعضاء:
- إجراء تحقيقات شاملة وشفافة في الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”، ونشر نتائج هذه التحقيقات على نطاق واسع لضمان المساءلة.
- ملاحقة المسؤولين عن الانتهاكات بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية، خاصةً في الدول التي تسمح قوانينها بمقاضاة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
- جمع الأدلة وحفظها لتقديمها إلى المحاكم الوطنية والدولية بهدف محاسبة الجناة والمتورطين.
- ضمان التحقيق في الجرائم الموجهة ضد النساء، خاصةً تلك التي تتضمن عنفاً قائماً على النوع الاجتماعي، وإنشاء مراكز خاصة لدعم الناجيات من الاعتقال التعسفي والعنف الجنسي، تقدم خدمات نفسية وقانونية متخصصة.
- فرض عقوبات دولية على الأفراد والكيانات المسؤولة عن الانتهاكات في سوريا، بما في ذلك الجرائم المرتكبة في المناطق المذكورة.
- إلزام الحكومة التركية -باعتبارها تمارس سيطرة فعلية على “الجيش الوطني السوري”- بالامتثال لالتزاماتها بموجب القانون الإنساني الدولي، وضمان حماية المدنيين، ومحاسبة الفصائل التابعة لها.
- الضغط على فصائل “الجيش الوطني السوري” وجميع قوى الأمر الواقع في سوريا، لتوفير ضمانات قضائية أساسية للمعتقلين/ات، بما في ذلك حقهم/ن في معرفة التهم الموجهة إليهم/ن والحصول على محاكمة عادلة.
- الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع المحتجزين/ات تعسفياً، وإلغاء جميع الأحكام المستندة إلى اعترافات منتزعة تحت التعذيب.
توصيات للمنظمات الحقوقية المحلية والدولية:
- توفير برامج دعم نفسي اجتماعي للناجين/ات من الاحتجاز التعسفي والتعذيب، وأسر ضحايا الاختفاء القسري، مع مراعاة احتياجات النساء والأطفال.
- تقديم الدعم القانوني والمجتمعي للضحايا لضمان إعادة إدماجهم في مجتمعاتهم والمشاركة الفاعلة في عمليات العدالة الانتقالية.
- تعزيز مهارات التوثيق القانوني والإبلاغ عن الانتهاكات بشكل منهجي ومهني.
- نشر تقارير دورية تسلط الضوء على الانتهاكات المستمرة، وتنظيم حملات مناصرة دولية لدفع المجتمع الدولي لاتخاذ خطوات عملية.
- تعزيز التضامن مع الناجين/ات من خلال مبادرات تدعو إلى حمايتهم وتقديم الدعم لهم.
توصيات لتعزيز العدالة الانتقالية:
- دعم الجهود الوطنية والدولية لجمع الأدلة وحفظها بما يضمن استخدامها في المحاكم المستقبلية.
- إنشاء سجل وطني لتوثيق حالات الاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب، لضمان الاعتراف بالضحايا ومتابعة قضاياهم.
- وضع آلية شاملة للعدالة الانتقالية تشمل تعويضات للضحايا، برامج إعادة التأهيل، وإجراءات محاسبة واضحة.
- تأسيس لجان محلية للحقيقة والمصالحة تعمل على كشف الحقائق بشأن الجرائم، وضمان عدم تكرارها.
- ضمان العودة الطوعية والآمنة والكريمة للنازحين/ات والمهجرين/ات إلى منازلهم/ن، مع ضمان استعادة حقوقهم/ن، وعدم تعرضهم للاضطهاد أو الانتقام.
- تأمين تعويضات عادلة للمتضررين/ات من الانتهاكات، بما في ذلك التهجير القسري ونهب الممتلكات.
يمكنكم/ن قراءة التقرير بالكامل (16 صفحة) من خلال الرابط.
[1] “هناء” اسم مستعار لناجية أدلت بشهادتها لرابطة “تآزر”، وقد تمّ التحفظ على أسمها وأي معلومات قد تُشير إليها، حفاظاً على أمنها وسلامتها.
[2] المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR): أكثر من 10,000 سوري عبروا الحدود إلى العراق منذ بدء الحملة التركية على شمال شرق سوريا، الأمم المتحدة، 25 تشرين الأول/أكتوبر 2019 (متوفر على الرابط: https://news.un.org/ar/story/2019/10/1042501).
[3] الجمعية العامة للأمم المتحدة، مجلس حقوق الإنسان، تقرير اللجنة الدولية المستقلة بشأن سوريا، A/HRC/34/57، 28 كانون الثاني/يناير 2020، الفقرة 45.
[4] انظر، على سبيل المثال: منظمة العفو الدولية، “سوريا: أدلة دامغة على جرائم حرب وانتهاكات أخرى ارتكبتها القوات التركية وحلفاؤها“، 18 تشرين الأول/أكتوبر 2019 (متوفر على الرابط: https://www.amnesty.org/en/latest/press-release/2019/10/syria-damning-evidence-of-war-crimes-and-other-violations-by-turkish-forces-and-their-allies/).
[5] Official Records of the Diplomatic Conference on the Reaffirmation and Development of International Humanitarian Law applicable in Armed Conflicts, Vol. 8, CDDH/I/SR.22, Geneva, 1974–77, p. 201.
[6] Sivakumaran, The Law of Non-International Armed Conflict, (Oxford University Press, 2012), p 530.
[7] Committee Against Torture, 20th Sess., GRB. v Sweden, Communication No. 83/ 1997, UN. Doc. CAT/C/20/D/83/1997 (19 June 1998); Sheekh v Netherlands, App. No. 1948/04, HUDOC at 45 (11 January 2007); UN Secretary-General, Report of the Secretary-General’s Panel of Experts on Accountability in Sri Lanka, 243 (31 March 2011), p 188; Darragh Murray, Human Rights Obligations of Non-state Armed Groups (Hart Publishing, 2016).
[8] OHCHR, ‘International Legal Protection of Human Rights in Armed Conflict’, Geneva and New-York (2011), pp 23-27 (Available at: https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/HR_in_armed_conflict.pdf).
[9] OHCHR, Joint Statement by independent United Nations human rights experts on human rights responsibilities of armed non-State actors, 25 February 2021 (Available at: https://www.ohchr.org/en/press-releases/2021/02/joint-statement-independent-united-nations-human-rights-experts-human-rights?LangID=E&NewsID=26797).
[10] Rule 90 of International Committee of the Red Cross (ICRC) study on Customary International Humanitarian Law.
[11] ICTY, Kunarac Trial Judgment, 2001, para. 496, confirmed in Appeal Judgment, 2002, para. 148. See also Simić Trial Judgment, 2003, para. 82; Brđanin Trial Judgment, 2004, para. 488; Kvočka Appeal Judgment, 2005, para. 284; Limaj Trial Judgment, 2005, para. 240; Mrkšić Trial Judgment, 2007, para. 514; Haradinaj Retrial Judgment, 2012, para. 419; and Stanišić and ŽupljaninTrial Judgment, 2013, para. 49.
[12] ICRC 2020 Commentary on Common Article 3, para 596.
[13] Rule 99 of the ICRC Study on Customary International Humanitarian Law.
[14] See for instance, Human Rights Committee, General Comment No. 35, 2014.