مقدّمة:
في آب/أغسطس 2024، وقعت قصة مأساوية في إحدى القرى الواقعة بريف رأس العين/سري كانيه، حيث لقي طفل مصرعه برصاص فصيل مسلح خلال محاولة أحد السكان استعادة منزل استولى عليه الفصيل. تلا ذلك اعتقال أربعة من أفراد العائلة وتعريضهم للتعذيب، قبل الإفراج عن بعضهم لاحقاً دون إجراءات قانونية واضحة. وسط استمرار الانتهاكات في المنطقة وغياب أي محاسبة للجناة.
بدأ الأمر عندما حاول أحد السكان استعادة منزل يعود لأحد أقاربه، والذي استولى عليه تجمع “أحرار الشرقية” أحد فصائل “الجيش الوطني السوري” المسيطرة على المنطقة. إلا أن هذه المطالبة قوبلت بعنف مفرط، حيث قامت دورية مسلحة تابعة للفصيل، مؤلفة من عدة سيارات دفع رباعي، بمداهمة متجر العائلة المخصص لبيع المواد الغذائية.
وخلال مشادات كلامية، أطلق المسلحون الرصاص بالقرب من صاحب المتجر في محاولة لترهيبه. لكن إحدى الرصاصات أصابت طفلاً يبلغ من العمر 12 عاماً كان يعمل في المحل، مما أدى إلى وفاته على الفور. أعقب ذلك إطلاق نار كثيف في الهواء لبث الذعر في نفوس أهالي القرية، قبل أن يتم مداهمة منزل العائلة واعتقال أربعة من أفرادها.
أثناء الاعتقال، تعرض المحتجزون للضرب المبرح، كما تم تحطيم هواتفهم المحمولة لمنع أي تواصل مع العالم الخارجي. نُقل المعتقلون إلى أحد مقرات الفصيل في رأس العين/سري كانيه، حيث بقوا رهن الاحتجاز دون أي تهم واضحة. وبعد يومين، تمّ تسليمهم إلى قوات “الشرطة المدنية” في المدينة، حيث استمر احتجازهم دون إجراءات قانونية شفافة.
بعد عدة أيام، تمّ إطلاق سراح ثلاثة من المعتقلين، بينما ظل أحدهم محتجزاً دون أي تفسير قانوني لأسباب اعتقاله أو الإفراج عن الآخرين. أما عائلة الطفل الذي قُتل، فقد تمّ تسوية القضية وفق الأعراف العشائرية، باعتبار الحادثة “قضاء وقدر”، مقابل دفع دية، في ظل عدم قدرة ذويه على تقديم أي شكوى خشية التعرض للاعتقال أو الانتقام.
تعكس هذه الممارسات التي يتعرض لها المدنيون في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”، بما في ذلك القتل، الاعتقال التعسفي، التعذيب، والإخفاء القسري، غياباً كاملاً للعدالة والمساءلة، إذ لم يتم التحقيق في أي من هذه الانتهاكات، ولم تتخذ أي إجراءات لمحاسبة المسؤولين عنها. كما تؤكد أن هذه المناطق لا تزال غير آمنة، على عكس الادعاءات التي تروج لها تركيا، حيث أكدت هيومن رايتس ووتش، في 4 تموز/يوليو 2024، أنّ هذه المناطق تاريخياً لم تكن آمنة، بل كانت من بين أخطر الأماكن في البلاد.
خلال عام 2024 وثّقت رابطة “تآزر” اعتقال ما لا يقلّ عن 217 شخصاً، بينهم 10 نساء وطفل في مدينة رأس العين/سري كانيه وريفها، وفي حين تمّ الإفراج عن 82 شخصاً فقط، لا يزال 129 شخصاً في عداد المختفين/ات قسرياً في سجون فصائل “الجيش الوطني السوري”، في ظل غياب أي إجراءات قانونية شفافة تضمن محاكمات عادلة للمحتجزين/ات.
وبالتزامن مع سقوط النظام السوري، 8 كانون الأول/ديسمبر 2024، أصدرت “الحكومة السورية المؤقتة” التابعة للائتلاف الوطني السوري “المُعارض” قراراً بالعفو العام، لكنه لم يشمل معظم المحتجزين/ات الكُرد، الذين استمر احتجازهم/ن دون محاكمة أو تهم واضحة، كما أنّ العديد ممن أُفرج عنهم/ن لم يُطلق سراحهم/ن إلا بعد دفع فدى مالية لعناصر وقادة الفصائل المسلحة.
يعكس تكرار مثل هذه الحوادث بيئة قمعية تمنع المهجرين/ات قسراً من العودة الآمنة والطوعية إلى مناطقهم/ن، مما يؤدي إلى استمرار التهجير وانعدام الاستقرار الاجتماعي. كما أن غياب آليات انتصاف فعالة للضحايا يكرّس ثقافة الإفلات من العقاب، ويشجع على استمرار هذه الانتهاكات، في ظل عجز أو عدم رغبة النظام القضائي في التعامل مع هذه التجاوزات بشكل عادل وفعال.
في المجمل، تُظهر هذه الأحداث حاجة ملحة إلى تدخل دولي أكثر جدية لمراقبة الوضع الحقوقي في هذه المناطق، ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وضمان تطبيق معايير العدالة الدولية لحماية المدنيين من الجرائم والانتهاكات الممنهجة.
تصاعد خطير في الاعتقالات والانتهاكات في رأس العين/ٍسري كانيه:
شهد العام 2024 ارتفاعاً حاداً في حالات الاعتقال التعسفي والاختفاء القسري في منطقة رأس العين/سري كانيه وريفها، حيث وثّقت رابطة “تآزر” ما لا يقل عن 217 حالة اعتقال، من بينهم 10 نساء وطفل. وفي حين تمّ الإفراج عن 82 شخصاً فقط، لا يزال 129 شخصاً مجهولي المصير، مختفين/ات قسرياً داخل سجون فصائل “الجيش الوطني السوري”.
بالمقارنة مع العام 2023، يظهر تصاعد مقلق في حجم الانتهاكات، إذ ارتفعت نسبة الاعتقالات التعسفية والاختفاء القسري بنسبة 128%، حيث زادت من 95 حالة في 2023 إلى 217 حالة في 2024. كما شهد عدد المختفين/ات قسرياً زيادة بنسبة 84%، إذ ارتفع من 70 إلى 129 شخصاً. إضافة إلى ذلك، ارتفع عدد الأشخاص الذين تعرضوا/تعرضنّ للتعذيب بعد الإفراج عنهم/ن بنسبة 256%، حيث قفز من 23 إلى 82 حالة، وهو ما يعكس تدهوراً خطيراً في وضع حقوق الإنسان في المنطقة.
أفاد ناجون من الاعتقال والإخفاء القسري بأنهم تعرّضوا لصنوف متعددة من التعذيب الجسدي والنفسي، حيث وثّقت “تآزر” العديد من الحالات التي قام فيها عناصر “الجيش الوطني السوري” بمطالبة ذوي المختفين/ات والمعتقلين/ات بدفع فدى مالية مقابل الإفراج عنهم/ن. كما تم تسجيل اعتقال 87 شخصاً من طالبي اللجوء أثناء محاولتهم/ن العبور إلى تركيا، في سياق يُشير إلى استغلال أوضاع اللاجئين/ات بشكل ممنهج لتحقيق مكاسب مالية غير مشروعة.
يُشير تحليل المعلومات التي وثقتها “تآزر” إلى تورط عدة جهات أمنية وعسكرية في تنفيذ هذه الاعتقالات، حيث ارتكبت “الشرطة العسكرية” ما لا يقل عن 76 حالة اعتقال، تلتها فرقة “السلطان مراد” بـ 59 حالة، ثم “الشرطة المدنية” بـ 17 حالة. كما أن هناك العديد من الحالات التي لم يتم فيها تحديد الجهة المتورطة بشكل مباشر، خاصةً مع وجود أنماط اعتقال يتم فيها تسليم الضحايا بين جهات متعددة.
اعتمدت “تآزر” في توثيقاتها على شبكة من الباحثين الميدانيين، بالإضافة إلى معلومات من ذوي المعتقلين/ات وشهود العيان، فضلاً عن التحقق من معلومات المصادر المفتوحة. وتُنوّه الرابطة إلى أن حجم الانتهاكات التي ترتكبها فصائل “الجيش الوطني السوري” في منطقة رأس العين/سري كانيه وريفها يتجاوز بكثير ما يتم توثيقه فعلياً، مما يسلط الضوء على خطورة الوضع الحقوقي والأمني في هذه المناطق، وضرورة التحرك الدولي لمحاسبة المسؤولين عن هذه الجرائم.
الاعتقال التعسفي كنمط منهجي وانتهاك مستمر لحقوق الإنسان:
لا تزال عمليات الاعتقال التعسفي والإخفاء القسري والتعذيب تمثل ممارسة ممنهجة وواسعة النطاق في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”، حيث وثّقت “تآزر” في تقاريرها المتعددة استمرار هذه الانتهاكات، في ظل غياب كامل للعدالة والمساءلة.
وفي تقريرها الصادر بتاريخ 23 كانون الأول/ديسمبر 2024 تحت عنوان “العدالة المفقودة“، وثقت “تآزر” النمط المنهجي والمستمر من الاحتجاز التعسفي، الإخفاء القسري، والتعذيب، الذي تُمارسه فصائل “الجيش الوطني السوري” في مناطق رأس العين/سري كانيه وتل أبيض، والآثار العميقة لهذه الانتهاكات على الضحايا والناجين/ات وعائلاتهم/ن. كما قامت الرابطة بمخاطبة الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة لتسليط الضوء على هذه الانتهاكات الجسيمة.
ومن بين الحالات الموثّقة، تعرّض عدد من طالبي اللجوء للاعتقال بعد محاولتهم العبور إلى تركيا، حيث تعرضوا أولاً للتعذيب والمعاملة القاسية على يد “قوات حرس الحدود التركية/الجندرما”، قبل أن يتم تسليمهم إلى قوات “الشرطة العسكرية” لـ “الجيش الوطني السوري”. وشهدت هذه الفترة الموثّقة في التقرير مقتل شخصين على الأقل، إضافة إلى ما لا يقل عن 38 حالة اعتداء وتعذيب وضرب في سياق عمليات عبور اللاجئين إلى الأراضي التركية.
كما رصدت “تآزر” استمرار ظاهرة الابتزاز المالي مقابل الإفراج عن المعتقلين/ات، حيث أُجبر ذوو أربعة معتقلين على دفع مبلغ 2900 دولار أمريكي لضمان إطلاق سراحهم، فيما تم سلب مبلغ 1,500 دولار أمريكي من أحد طالبي اللجوء، بالإضافة إلى الاستيلاء على مقتنياته الشخصية.
وفي حادثة أخرى، وثّقت الرابطة اعتقال مجموعة تضم 17 شخصاً، بينهم أربع نساء، أثناء محاولتهم العبور إلى رأس العين/سري كانيه بهدف دخول الأراضي التركية. وقد قامت “فرقة السلطان مراد” بتوقيفهم عند الطريق الدولي في منطقة العالية، ليتم لاحقاً إطلاق سراح 15 شخصاً منهم بعد دفع كل فرد مبلغ 300 دولار أمريكي، بينما تم الإبقاء على شخصين وتسليمهما إلى “الشرطة العسكرية” تحت ذريعة الاشتباه بتعاملهم مع قوات سوريا الديمقراطية. خلال التحقيق، تعرّض المعتقلان للتعذيب الشديد، وتم تكسير هواتفهم قبل أن يتم الإفراج عنهم بعد يومين من الاحتجاز القسري.
وفي إحدى الحالات، دفع ذوو أحد الضحايا مبلغ 6500 دولار أمريكي مقابل تسليم جثته والإفراج عن أحد أقاربه، وذلك بعد احتجازهم من قبل “الشرطة العسكرية” و “الشرطة المدنية”. إنّ هذه الممارسات، التي تشمل الاعتقال دون مبررات قانونية، التعذيب، والابتزاز المالي، تعكس سياسة قمعية ممنهجة تهدف إلى ترهيب السكان المحليين ودفعهم إلى مغادرة مناطقهم الأصلية أو إخضاعهم للابتزاز المادي مقابل حريتهم.
تُظهر هذه الأنماط من الانتهاكات أن عمليات الاعتقال التعسفي ليست مجرد حوادث فردية أو أخطاء عشوائية، بل هي جزء من سياسة أوسع تهدف إلى تقييد الحريات وانتهاك الحقوق الأساسية للسكان المدنيين، في ظل غياب أي آليات مساءلة فعالة، واستمرار الإفلات من العقاب، مما يؤكد الحاجة الملحّة إلى تدخل دولي لمحاسبة المسؤولين وضمان حماية حقوق المدنيين في هذه المناطق.
ظروف احتجاز لاإنسانية:
لم يلتزم “الجيش الوطني السوري” المدعوم من تركيا، بأي معايير إنسانية ينبغي تطبيقها على الأشخاص المحتجزين لدى قواته، حيث تمّ احتجاز جميع من تمت مقابلتهم في أماكن مكتظة أو في زنازين انفرادية ولفترات طويلة دون تبرير، كما فُرِضت على جميع الضحايا ظروف احتجاز لاإنسانية كان المسؤولون عنها يبتغون منها إما زيادة الضغط على الضحايا للحصول على اعترافات أو معلومات أو فدية من العائلة، وإما دون غرض محدّد ولمجرّد التسبّب بالمزيد من المعاناة للضحايا.
وقد اشترك معظم الضحايا في تجربة الحرمان من النوم والتعريض للبرد الشديد والحرمان من أي وسائل للتدفئة؛ أقلها الأغطية، ولم يذكر أي ضحية أنه حصل على تغذية كافية أو مياه شرب نظيفة. كما تعرض جميع الضحايا للشتائم والعبارات والتصرفات التي تمس العرض والشرف وفق المعايير الاجتماعية السائدة.
للاحتجاز تأثير متعدد الأوجه على الرجال والنساء والأطفال، ويشمل ضروباً من الأذى الجسدي والنفسي على حد سواء، إذ وصف معظم الناجين معاناتهم من آلام جسدية مُزمنة ناجمة عن التعذيب الذي تعرضوا له، ومن اضطرابات نفسية لاحقة للصدمة، نوبات هلع، وخوف مستمر، وقلق، مع تكرار الكوابيس التي تزيد من حالة الصدمة.
التعذيب وسوء المعاملة:
تشير الأدلة والشهادات التي جمعتها “تآزر” إلى أن ممارسات التعذيب وسوء المعاملة باتت نهجاً ممنهجاً واسع النطاق في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري”، حيث أن هذه الممارسات لا تقتصر على الاحتجاز التعسفي والإخفاء القسري، بل تشمل أساليب تعذيب وحشية تهدف إلى ترهيب السكان، وإجبارهم على مغادرة مناطقهم الأصلية أو دفع مبالغ مالية مقابل حريتهم.
تظهر الشهادات أن تهمة التعامل مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لا تزال التهمة الأكثر شيوعاً التي تُستخدم لتبرير عمليات الاعتقال التعسفي والتعذيب في المناطق التي تسيطر عليها فصائل “الجيش الوطني السوري”، مما يشير إلى أن هذه الاتهامات تُستخدم بشكل اعتباطي لتبرير عمليات الاحتجاز والانتهاكات.
تعكس أنماط التعذيب التي تمّ توثيقها على يد “الجيش الوطني السوري”؛ صورة مما كان “النظام السوري” السابق يرتكبه في فروعه الأمنية المختلفة، إذ أبلغ ناجون من الاحتجاز عن تعرضهم لأنواع متعددة من التعذيب، مثل الركل والصفع، والضرب بالعصي وخراطيم المياه، والجلد بالأسلاك الكهربائية.
كما تعرض عدة ضحايا للشبح بواسطة البلانكو وما يُعرف بالفروجة ولإطفاء السجائر في أجسادهم. وتمّ تعليق بعض الضحايا إلى السقف، وضربهم بأعقاب البنادق، وتعرضوا للصعق بالكهرباء. وكان بعض الضحايا قد تعرضوا لأشكال أخرى من التعذيب مثل الإغراق في الماء، تكسير الأصابع، إحداث جروح بواسطة آلة حادة، والجر خلف عربة عسكرية.[1]
ورافق التعذيب الجسدي أذى نفسي أيضاً، حيث تعرض أغلب الضحايا للإهانة، فيما أُجبِر البعض منهم على مشاهدة تعذيب أفراد آخرين بطريقة أشد قسوة، وهُددوا بالتعرض للمثل إن لم يتعاونوا ويعترفوا بما هو مطلوب منهم. كما تعرض معظم الضحايا للتهديد بالقتل، وبعضهم تمّ توجيه السلاح فعلاً لرؤوسهم. وانتهى الأمر بالبعض بالموافقة على التوقيع على اعترافات لم يُدلوا بها.
وقد وثّقت رابطة “تآزر” في تقرير مُشترك نشرته بتاريخ 26 حزيران/يونيو 2024 بعنوان في غياب المساءلة: التعذيب كسياسة ممنهجة في شمال سوريا، أنّ التعذيب وسوء المعاملة باتت ممارسة منهجية واسعة النطاق في مناطق سيطرة “الجيش الوطني السوري” في شمال سوريا، وذلك على مرأى من القوات التركية أو بمشاركتها.
الإطار القانوني:
في سياق القانون الدولي الإنساني النافذ على المناطق التي تتناولها هذه المراسلة، ينظم هذا القانون القضايا المرتبطة بشكل كافٍ بالنزاع المسلح القائم. تمارس المجموعات المسلحة من غير الدول السيطرة على السكان المدنيين بحكم وجود نزاع مسلح تنخرط فيه تلك المجموعات في النزاع ضد الدولة. بناءً على ذلك، ينطبق القانون الدولي الإنساني لحماية هؤلاء السكان من ممارسة السلطة التعسفية من قبل أطراف النزاع في ظل غياب أو تعطيل الحماية التي يفترض أن تكون ممنوحة لهم بحكم القانون الوطني.[2] وبالتالي فإن المجموعات المسلحة من غير الدول مُلزمة بمجموعة من القواعد القانونية التعاقدية والعرفية في تعاملها مع المدنيين خلال النزاع المسلح ومن ضمن ذلك وعلى الأقل “الحماية المقدمة للجرحى والمرضى؛ حماية المستشفيات؛ مبدأ المعاملة الإنسانية؛ حظر العقوبات الجماعية والنهب والانتقام؛ وأخذ الرهائن؛ حظر الترحيل والنقل القسري؛ والحق في الإجراءات القانونية الواجبة والضمانات القضائية”.[3]
على الجانب الآخر، فعلى الرغم من أن الدول هي المسؤولة الأولى عن احترام وحماية وإنفاذ حقوق الإنسان بموجب القانون الدولي، هناك دعم متزايد للموقف القائل أن المجموعات المسلحة من غير الدول التي تسيطر على أراضٍ وبالتالي السكان، تتحمل التزامات القانون الدولي لحقوق الإنسان من اجل تجنب حدوث فجوة حماية.[4] وقد أيدت الأمم المتحدة هذا الموقف.[5] كما أشار مجلس حقوق الإنسان إلى “أنه يُعتبر على نحو متزايد أن الجهات الفاعلة من غير الدولة يمكن أن تكون ملزمة، في ظل ظروف معينة، بالقانون الدولي لحقوق الإنسان”.[6] كما خلص خبراء حقوق الإنسان في الإجراءات الخاصة لمجلس حقوق الإنسان في بيانهم إلى أنه “يتعين، كحدّ أدنى، على الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدولة التي تمارس وظائف شبيهة بوظائف الحكومة أو تسيطر بحكم الأمر الواقع على أراضٍ وسكان، احترام حقوق الإنسان الخاصة بالأفراد والمجموعات وحمايتها”.[7]
يعتبر حظر التعذيب والعقوبة أو المعاملة القاسية أو الوحشية أو الحاطة بالكرامة من القواعد الآمرة في القانون الدولي (jus cogens)، ولا يخضع هذا الحظر في هذا السياق لأي تبريرات أو قيود أو ذرائع متعلقة بالشخصية القانونية للجهة المعنية. فالحظر مطلق في زمن السلم والحرب، وينطبق على الجميع دون استثناء.
وفي هذا السياق، تحظر المادة المشتركة الثالثة من اتفاقيات جنيف المنطبقة خلال النزاعات المسلحة غير الدولية، المعاملة القاسية والتعذيب وكذلك الاعتداء على الكرامة الشخصية (المعاملة اللاإنسانية)، ولا سيما المعاملة المهينة والحاطة بالكرامة، وهذا الحظر يعتبر انعكاساً للقانون الدولي الإنساني العرفي.[8] والجدير بالذكر، أن مفهومي التعذيب والمعاملة اللاإنسانية المحظورين خلال النزاعات المسلحة لا يتطلبان مشاركة أو وجود مسؤول حكومي أو أي شخص آخر له سلطة في عملية التعذيب[9] على غرار ما تفرضه اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة. وبالتالي، يتحمل أفراد وقادة المجموعات المسلحة بصفتهم، تلك المسؤولية القانونية لارتكاب الأفعال التي ترقى للتعذيب أو المعاملة اللاإنسانية دون الحاجة للمجادلة حول مسؤولية الدولة في ذلك. وارتكاب التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية خلال النزاع المسلح غير الدولي يترتب عليه مسؤولية جنائية فردية في حال استوفى الفعل أركان جريمة حرب التعذيب أو المعاملة اللاإنسانية كما ورد في مواثيق المحاكم الجنائية الدولية.[10] وتجدر الإشارة إلى أن واجب المعاملة الإنسانية ينطبق في جميع الظروف ولا يخضع للضرورة العسكرية أو للتقيّد المتبادل من قبل الطرف الآخر في النزاع.[11]
كما تنص المادة 5 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أنه “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”. وبالمثل، تلزم المادة 2 من اتفاقية مناهضة التعذيب الدول الأطراف بالامتناع عن أعمال التعذيب واتخاذ تدابير تشريعية وقضائية وإدارية فعالة لمنع أعمال التعذيب على أراضيها. تُلزم المادة 16 من اتفاقية مناهضة التعذيب الدول الأطراف بحظر ومنع الأفعال الأخرى للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة التي لا ترقى إلى مستوى التعذيب في نطاق ولايتها القضائية. وتنص المادة 7 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أنه “لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”.
وتنص المادة 2 (2) من اتفاقية مناهضة التعذيب على أنه “لا يجوز التذرع بأية ظروف استثنائية، سواء كانت حالة حرب أو تهديد بالحرب أو عدم استقرار سياسي داخلي أو أي حالة طوارئ عامة أخرى، كمبرر للتعذيب”. وبالمثل، توضح المادة 4 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية أن الالتزام المنصوص عليه في المادة 7 (حظر التعذيب) لا يمكن الانتقاص منه في أوقات الحرب أو أي نوع من حالات الطوارئ العامة.
يُعتبر الحرمان التعسفي من الحرية محظوراً كأحد قواعد القانون الدولي الإنساني العرفي،[12] وينطبق التماثل من القانون النافذ على النزاع المسلح الدولي وكذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان. وبناءً على ذلك، يجب أن يكون الحرمان من الحرية مشروعاً في القانون النافذ، ومستوفياً للإجراءات الأساسية وأهمها: وجوب إبلاغ الشخص الذي يُلقى القبض عليه بأسباب توقيفه، وجوب إحضار الشخص الموقوف بتهمة جنائية أمام قاضِ، ودون إبطاء، ووجوب توفير فرصة للشخص المحروم من حريته للطعن بقانونية الاحتجاز.[13] وفيما يخص مشروعية أسباب الحرمان من الحرية، يُستشهد عادة بالموجبات المفروضة خلال النزاع المسلح الدولي لجهة أن تقتصر أسباب هذا الحرمان على الضرورة القصوى في حال لم يكن ذلك لأسباب جنائية.[14] بالإضافة إلى ذلك، وبغض النظر عن أسباب الحرمان من الحرية، يبقى جميع أطراف النزاع مُلزَمين بمعاملة جميع الأشخاص تحت سيطرتهم بإنسانية ودون تمييز على أي أساس وفقاً للفقرة الأولى من المادة الثالثة المشتركة.
وفي سياق القانون الدولي لحقوق الإنسان، تحظر المادة 9 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أعمال الاعتقال أو الاحتجاز أو النفي التعسفي. تحمي المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حق الأفراد في الحرية والأمن. وتنص كذلك في الفقرة 4 على أن “لكل شخص حرم من حريته بالاعتقال أو الاحتجاز الحق في رفع دعوى أمام محكمة لكي تبت تلك المحكمة دون إبطاء في مشروعية احتجازه، وتأمر بالإفراج عنه إذا كان الاحتجاز غير قانوني”.
في التعليق العام رقم 35، تناولت لجنة حقوق الإنسان مدى انطباق المادة 9 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على حالات النزاع المسلح، نظرًا لأن القانون الدولي الإنساني ينظم احتجاز مقاتلي العدو والمدنيين بشكل مختلف. أوضحت لجنة حقوق الإنسان أن “المادة 9 [من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية] تنطبق أيضًا في حالات النزاع المسلح” وأن القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان مجالان قانونيان متكاملان، ولا يستبعد أحدهما الآخر.
علاوةً على ذلك، في حين أن المادة 9 لم يتم تضمينها كبند غير قابل للتقييد بموجب المادة 4 (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، إلا أن هناك حدًا لسلطة الدولة في التقييد. وأي استثناء من المادة التاسعة (وهو ما لم يحدث في الوضع في سوريا) يجب أن يكون “مقتضيات صارمة لمقتضيات الوضع الفعلي”. وأخيراً، “إذا تم التذرع، في ظل الظروف الأكثر استثنائية، بتهديد حالي ومباشر وحتمي لتبرير احتجاز الأشخاص الذين يُعتبر أنهم يمثلون مثل هذا التهديد، فإن عبء الإثبات يقع على عاتق الدول الأطراف لإثبات أن هذا الفرد يشكل مثل هذا التهديد وأنه لا يمكن معالجته بتدابير بديلة، ويزداد هذا العبء مع طول مدة الاحتجاز. ويتعين على الدول الأطراف أيضاً أن تثبت أن الاحتجاز لا يدوم لفترة أطول مما هو ضروري فعلاً، وأن المدة الإجمالية للاحتجاز المحتمل محدودة، وأنها تحترم بالكامل الضمانات المنصوص عليها في المادة 9 في جميع الحالات.
بحكم الإجماع المتزايد حول مسؤولية المجموعات المسلحة من غير الدول حول احترام وحماية حقوق الإنسان في المناطق التي تسيطر عليها، تنطبق الأحكام الواردة أعلاه على فصائل “الجيش الوطني السوري” نظراً لواقع السيطرة المستمرة لتلك الفصائل على ما تُسمى بمناطق “نبع السلام” بالإضافة إلى مناطق “غصن الزيتون”، وقيامها بوظائف تشبه وظائف الحكومة.
[1] في طريقة التعذيب المُسماة “البلانكو” يتم ربط الضحية وتعليقه من معصمه بحبل يتدلى من السقف، وقد تلامس رؤوس أصابع قدميه الأرض فتتعرض لضغط كبير أو يبقى معلقاً في الهواء ليضغط ثِقل جسده بالكامل على معصمه، ما يؤدي لتورمها مع ألم شديد. وقد يبقى الضحية معلقاً لساعات أو أيام مع تعرضه للضرب الشديد. وفي الطريقة التي تُسمى بـ “الفروج” تُربط يدا الضحية مع قدميه، ثم يُعلق منهما على عمود خشبي أو معدني ويُرفع عن الأرض في طريقة تحاكي شواء الدجاج، ويترافق ذلك مع ضربه على مختلف أنحاء جسده.
[2] Official Records of the Diplomatic Conference on the Reaffirmation and Development of International Humanitarian Law applicable in Armed Conflicts, Vol. 8, CDDH/I/SR.22, Geneva, 1974–77, p. 201.
[3] Sivakumaran, The Law of Non-International Armed Conflict, (Oxford University Press, 2012), p 530.
[4] Committee Against Torture, 20th Sess., GRB. v Sweden, Communication No. 83/ 1997, UN. Doc. CAT/C/20/D/83/1997 (19 June 1998); Sheekh v Netherlands, App. No. 1948/04, HUDOC at 45 (11 January 2007); UN Secretary-General, Report of the Secretary-General’s Panel of Experts on Accountability in Sri Lanka, 243 (31 March 2011), p 188; Darragh Murray, Human Rights Obligations of Non-State Armed Groups (Hart Publishing, 2016).
[5] OHCHR, ‘International Legal Protection of Human Rights in Armed Conflict’, Geneva and New-York (2011), pp 23-27 (Available at: https://www.ohchr.org/sites/default/files/Documents/Publications/HR_in_armed_conflict.pdf).
[6] Ibid. p. 24.
[7] OHCHR, Joint Statement by independent United Nations human rights experts on human rights responsibilities of armed non-State actors, 25 February 2021 (Available at: https://www.ohchr.org/en/press-releases/2021/02/joint-statement-independent-united-nations-human-rights-experts-human-rights?LangID=E&NewsID=26797).
[8]القاعدة 90 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر حول القانون الدولي الإنساني العرفي.
[9] ICTY, Kunarac Trial Judgment, 2001, para. 496, confirmed in Appeal Judgment, 2002, para. 148. See also Simić Trial Judgment, 2003, para. 82; Brđanin Trial Judgment, 2004, para. 488; Kvočka Appeal Judgment, 2005, para. 284; Limaj Trial Judgment, 2005, para. 240; Mrkšić Trial Judgment, 2007, para. 514; Haradinaj Retrial Judgment, 2012, para. 419; and Stanišić and ŽupljaninTrial Judgment, 2013, para. 49.
[10] نظام روما الأساسي، المادة 8 (ج)(1) و(2)؛ ميثاق المحكمة الجنائية الدولية الخاصة بيوغوسلافيا السابقة، المادة 2(ب)؛ المحكمة الجنائية الدولية الخاصة برواندا، المادة 4.
[11] ICRC 2020 Commentary on Common Article 3, para 596.
[12] القاعدة 99 من دراسة اللجنة الدولية للصليب الأحمر حول القانون الدولي الإنساني العرفي.
[13] انظر على سبيل المثال، لجنة حقوق الإنسان، التعليق العام رقم 35 عام 2014.
[14] على سبيل المثال، المادتان 42 و78 من اتفاقية جنيف الرابعة.