الرئيسية قصص وشهادات ضاعت فلذةٌ من كبدي، وفقدتُ أخرى

ضاعت فلذةٌ من كبدي، وفقدتُ أخرى

بواسطة editor
53 مشاهدة تحميل كملف PDF حجم الخط ع ع ع

هذه القصة هي جزء من مبادرة “ذاكرة العدالة” التي أطلقتها رابطة “تآزر”، بهدف نشر قصص كتبها الضحايا بأنفسهم، سعياً لبناء ذاكرة جماعية تُسهم في كشف الحقيقة وتعزيز مسار العدالة الانتقالية. تأتي هذه المبادرة في إطار التزام الرابطة بتوفير منصة تُمكّن الضحايا والناجين/ات من التعبير عن تجاربهم/ن، وتمثيل قضاياهم/ن، والدفاع عن حقوقهم/ن. وتؤكد “تآزر” أن هذه القصص تعبّر عن وجهات نظر أصحابها/صاحباتها، ولا تعكس بالضرورة موقف الرابطة، لكنها تمثل خطوة محورية نحو إعلاء صوت الضحايا وتحقيق الإنصاف.

 

قصة “أم حسن”: ضاعت فلذةٌ من كبدي، وفقدتُ أخرى

  • كسرت الحربُ روتين حياتنا البسيطة:

يمكنني وصف سنوات الحرب السورية على أنها فترة اتّسمت بالخراب والدمار والضياع، فقد تدمّرت بيوت الناس، واختفى الكثير من أبناءهم على أرض هذه البلاد.

كانت الحياة سابقاً جميلة، ونعيش أياماً تتميّز بالبساطة، فقد كان أبناؤنا يتناولون فطورهم كلّ صباح، وينطلقون إلى أعمالهم، وعند المساء يعودون إلى أطفالهم. أمّا أنا، فقد كنت قريبة من الجميع، وكنت أخصّص وقتاً لأجالسهم؛ كنت أمضي الوقت مع زوجي وأولادي، إلى جانب زياراتي المستمرة لأشقائي وشقيقاتي وعائلة ابني الأكبر حسن، ذو المصير المجهول.

وسواءٌ قبل الحرب أم بعدها، فقد كانت حياتنا طبيعية جداً، ولم تشكّل صعوبات المعيشة عائقاً أمامنا يوماً، فقد كانت العائلة بأكملها تعيش معاً في مكان واحد، وذلك ما كان يعوّضنا عن الغلاء ونقص الخدمات، كما لم نكن نشعر بالخوف أمنياً، فقد كان اثنان من أولادي قد أنهيا الخدمة العسكرية الإلزامية لدى النظام السوري، وكان ابني الأصغر منخرطاً في العمل مع الرفاق (يقصد الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا).

لم أتلقّ التعليم طوال حياتي، إلّا أنّني كنتُ أبذل كلّ جهدي في تدبير أمور منزلي، في الوقت الذي كان زوجي يعمل فيه سائقاً للشاحنات الكبيرة، وكانت طبيعة عمله تفرض عليه فترات غياب طويلة عنّا، قد تصل لأسبوع كامل أحياناً. ونتيجة لظروف العمل هذه، فقد سلّمني زمام الأمور لأدبّر المنزل. لديّ ثلاثة أبناء وأربع بنات، لم يكمل البعض منهم تعليمهم، والبعض الآخر ممن أتمّوا التعليم في المعاهد والجامعات، لم يلقَوا الفائدة المرجوّة، وذلك بسبب صعوبة الحصول على فرص العمل آنذاك. لقد دفعنا ثمن انتمائنا القومي، ودفع أبنائي ثمن تسميتنا لهم بأسماء كردية.

امتهن زوجي قيادة الشاحنات الكبيرة، وكان يجوب مختلف المدن السورية في الداخل، منها اللاذقية وجبلة ودمشق وغيرها، وكان يعمل لحساب الغير، حيث لم يكن يملك شاحنته الخاصّة، واستمرّ ذلك إلى أن قمنا ببيع منزل نملكه في مدينة عامودا، وقمنا بشراء شاحنة خاصّة، وبعد أن وصل إلى مرحلة لم يعد بإمكانه فيها أن يستمرّ في العمل، شغل ابني الذي يعيش معي الآن مكان أبيه في العمل، ورغم إلحاحنا عليه ليكمل تعليمه، إلّا أنّه لم يفعل، والتحق بالثورة حين بدأت في سوريا. واستمرّ في مهنته، لكن في فترات تواجده في المنزل، كان يعمل ضمن لجانٍ تأسّست بهدف حماية الأحياء، في ظلّ انتشار العصابات التي كانت تقوم بالسرقة والنهب، لذا فقد قرّر مع قاطني الحيّ أن يقوموا بحمايتنا بأنفسهم.

 

  • حين فقدتُ ابنيَ البِكر:

في العام 2013، ترك زوجي عمله بسبب الظروف الأمنية السيئة في المناطق الأخرى، إلا أنّ حسن استمرّ بالعمل على الشاحنة، حيث كان يقوم بنقل القمح والشعير إلى طرطوس، وذلك برفقة صديقٍ له يعمل في المجال ذاته، ومن هناك قام بتحميل بعض أنواع المواد الغذائية، وفي طريق العودة إلى المنزل، تمّ اختطافه في محافظة دير الزور، بالقرب من مدينة الميادين، على حدّ وصف من قمنا بالتواصل معهم فيما بعد.

لم يكن ابني يحمل هاتفاً بحوزته، وبعد مرور ثلاثة أيام من انقطاع الأخبار عنه، اتصل صديقه الذي ينحدر من مدينة درعا بزوجة حسن، وأخبرها أنّه مختطف لدى جبهة النصرة، كما أخبرها أن حسن أنقذه من الاختطاف حين أخبر الخاطفين أن لا علاقة له بالشاحنة، فأطلقوا سراحه، أمّا تهمة ابني فقد كانت نقل المواد الغذائية للكرد[1] ومساعدتهم. منذ ذلك الحين، انقطعت أخباره عنّا.

قام شقيق زوجي بعدّة محاولات للوصول إلى مكان احتجازه، وحين وصل بصعوبةٍ بالغة، بدأ بالبحث عنه لدى جبهة النصرة، وأخبَرَنا أنّه وجد اسم ابني في أحد سجلاتهم، لكنّه لم يتمكن من قراءة الكلمة الموجودة بجانب اسمه بشكل صحيح؛ لم يكن متأكّداً إن كانت الكلمة هي “مقتول” أم “منقول”. بعد ذلك علمنا أنّ “داعش” قامت بأسره حيث أنّه أثناء فترة احتجاز ابني، تبادَل كلّ من “داعش” وجبهة النصرة أماكن السيطرة.

واجه شقيقا زوجي صعوبات كثيرة خلال بحثهما عن ابني، فقد كانت “داعش” هي المسيطرة على المنطقة، وقاموا بطرده واحد منهم بعد تهديده بالاعتقال، بينما اعتقل عمه الآخر وسُجن لمدة اسبوع دون وجه حق وحدث ذلك في العام 2013، وقد علمتُ أنّ الخاطفين كانوا يتحدثون بلهجات غريبة ومتنوعة، فلم تكن اللهجة سورية أو عراقية، بل لهجات أخرى غير معروفة.

لم نكن نتوقع أن يطول غيابه، فلم ينخرط ابني في القتال طوال حياته، وحين ذهب عمّه للبحث عنه، قمنا بتحضير بعض رؤوس المواشي لذبحها احتفالاً بعودته، ولكن ها هي السنوات مرّت، ولم يعُد.

قبل عدّة سنوات، انتشرت صور الوكيل هو الشخص الذي كان يشرف على حسن وأصدقائه أثناء نقلهم للمواد الغذائية بين المدن السورية وكان يرافق ابني، والذي كان يقطنُ حيّ الهلالية بمدينة قامشلو، وتمّ تداول الأنباء على أنّه انضمّ لداعش، وعلمنا حينها أنّ “قوات سوريا الديمقراطية” اعتقلوه، وأودعوه السجن في مدينة ديريك، ورغم محاولاتي الوصول إليه بهدف الحصول على أيّة معلومة بشأن ابني، إلا أنّ هذه المحاولات باءت بالفشل، وكذلك الأمر بالنسبة لمحاولاتي في الوصول إلى أصدقائه الذين كانوا معه؛ لم يعلم أحدٌ أيّ شيء عنه حتّى الآن.

في فترة اعتقال الوكيل، قامت زوجة ابني بزيارة عائلته، المكوّنة من أربع فتيات وولدين، حيث كانوا يتبادلون الزيارات فيما بينهم، وبعد فترة اختفت تلك العائلة، دون أن يعلم أحد عنها شيئاً.

تم حجز الشاحنة أيضاً، إلى جانب شاحنتين تعود ملكيتها إلى تاجر كبير، وكانت تحمل بضائع تُقدَّر قيمتها بما يقارب (14) مليون ليرة سورية في ذلك الوقت. كان من الممكن أن يطلقوا سراح ابني لو قام التاجر بمراجعتهم، إلّا أنّه فرّ إلى تركيا، الأمر الذي زاد مخاوفنا من أن تكون الشاحنات محمّلة بمواد ممنوعة أو كحوليات أو أسلحة وما إلى ذلك، ولكنّ السبب الرئيسي لاحتجاز ابني، كان اتّهامه بنقل المساعدات إلى الكرد.

لقد تكتّم الخاطفون على وجود ابني لديهم، وأخبروا شقيق زوجي أنّهم قاموا بنقله إلى العراق، وعلى الرغم من أنّ عمه وجد اسمه في سجلاتهم، إلا أنه لم يجرؤ على مواجهتهم خوفاً من الاعتقال. وذلك بعد أن رأى شاحنة ابني في ملعبٍ أو مكان ما مشابه، حينها سأل عن سائقها، وقابله عناصر “داعش” بالتهديد بالاعتقال والإخفاء، كمّا وجهوا له الشتائم، وقاموا باعتقاله لمدة أسبوع، واحتجزوا البضائع التي بحوزته، ثم أطلقوا سراحه، وكان ذلك في مدينة الرقة، ومع ذلك، فقد استمرّ بالسؤال عنه حتى عند وجوده في السجن، لكن لا أحد قدّم له أيّة معلومة مفيدة، ولم يُفضِ بحث عمّه عنه، والذي استمرّ لسنتين متتاليتين، ولم يصل إلى أيّة نتيجة في نهاية المطاف. اختفى حسن بتاريخ الثامن والعشرين من شهر آب عام 2013، وها قد مرّ على اختفائه ثمان سنوات وعدّة أشهر، “الله يحميك يا ابني، وانشاالله ترجعلي بالسلامة”.

لِحَسَن ثلاثة أطفال، ابنتان وابن وحيد، يعيشون في منزلهم المستقلّ، وتقوم والدتهم برعايتهم. كانت ابنته الصغيرة تبلغ من العمر شهرين حين اختفى والدها، والآن فقد وصلت إلى الصف الثالث الابتدائي دون أن تنعم برؤيته، وعلى الرغم من ذلك، فإنّها تتألم لغيابه. إنّ كافة أفراد العائلة يقومون بالاعتناء بأطفاله، ويفعلون ما بوسعهم حتّى لا يشعروا بغياب والدهم.

 

  • لم نَمُت سويّاً:

لم نبرح مكاننا بعد العام 2011، ولطالما كنتُ أخبر عائلتي بأنه إن كان الموت هو قدرنا من هذه الحرب، فعلينا ألّا نموت إلا سوياً.

ذهبتُ ذات مرّة لأجلب ابنتي من منزلها القريب منا، حين تمّ قصف حيٍّ مجاورٍ لحيّنا الكائن في مدينة قامشلو، وكان مصدر القصف هو مطار المدينة. في ذلك الوقت، لم يكن زوجي متواجداً في المنزل، وحين عاد برفقة حسن، كان يحمل سلاحاً حصل عليه من الرفاق الكرد حتى يدافعوا عنّا وعن أنفسهم، كان ذلك في العام 2012، حيث كان حسن لم يُفقد بعد.

كُنت برفقة عائلتي حين وصلنا خبرٌ مفاده أن (الرفاق) قد وصلوا إلى المطار، وعندها تفاجأنا جميعاً بخروج ابني الأصغر علينا من غرفته، حاملاً بيده سلاحاً، وحين سألناه عن سبب تصرّفه ذاك، أجاب بأنه سينضم للرفاق ليدافع عن المنطقة؛ كان يبلغ من العمر 14 عاماً فقط، وعلى الرغم من أنّ حسن صفعه في محاولة منه لإجباره على العدول عن قراره، إلّا أنّه لم يتراجع، واستشهد فيما بعد.

استشهد ابني الأصغر في مدينة سري كانيه/رأس العين، في العام 2019. كان يعمل مع الرفاق منذ البداية، وعاد للمنزل لمدة ثلاثة أشهر رغبةً منه في الحصول على قسطٍ من الراحة، ولكن ما إن اندلعت المعارك، حتّى عاد مجدداً، واستشهد في معارك سري كانيه/رأس العين. لم يعتد الراحة والبقاء في المنزل، فذهب مجدداً، ولم يعد.

 

  • مع كلّ طرقة بابٍ، أمل:

لقد مررنا جميعاً بتجارب قاسية في العائلة، لكنّ تجربتي كانت الأقسى، فقد فقدتُ ولدي الصغير شهيداً، والكبير لا زال مجهول المصير. إنّ الفقد لأكثر صعوبةً من الموت، فأنا لا أعلم مكان تواجد ابني حتى الآن.

لقد عانيتُ كثيراً في غياب ابني، وظهرت لديّ الكثير من الأمراض، الصدرية وغيرها، وأحياناً لا أستطيع تمييز طريق العودة إلى منزلي، وذلك من شدّة التفكير بابني، ونتيجةً لطول فترة الانتظار، كثيراً ما أتخيل أنني قد أقابله وجهاً لوجه في أيّة لحظة قادمة.

على الرغم من ذلك، أحاول جاهدةً ألّا أُظهِرَ ما أعانيه لمن حولي، وأن أعيش ألمي لوحدي، وبهذا لم تتأثر علاقاتي الاجتماعية نتيجةً لذلك، لكنّني في حقيقة الأمر فقدتُ قطعةً مني. أقوم بمراجعة الأطباء من أجل صحتي، لكنّني لم أتلق أيّة مساعدة من جهة معيّنة.

في الوقت الحالي، معاناتي الوحيدة هي غياب ابني، عدا ذلك فإنّ حياتي طبيعية، وزوجي اعتاد على أن أكون الوحيدة التي يرتاحُ حين أقوم بتلبية طلباته؛ نقوم بتحضير الطعام لبعضنا، حيث يقوم بتحضير الفطور لي يومياً، ولازال مواظباً على هذه العادة منذ أن تزوجنا قبل 43 سنة. بالنسبة لبناتي، فإنّ ثلاثاً منهنّ متزوجات، أما الرابعة فهي مخطوبة، ويعيش أحفادي بالقرب منّي، أما ابني الأوسط، فإنّه يعيش وعائلته معنا.

نعيش أوضاعاً اقتصادية سيئة؛ حالنا حال كلّ من يسكن هذه المنطقة. أتمنّى أحياناً لو أنني أعيش مشرّدةً في خيمةٍ مقابل عودة ابني، ووجوده بالقرب مني، فالأوضاع الاقتصادية لا تشكل عائقاً ولا يمكن اعتبارها مشكلة أمام فقدان أحد أفراد العائلة.

حضرتُ جلسةً واحدةً في عامودا، كانوا قد تحدثوا إليّ في وقتٍ سابق، وحصلوا على بعض المعلومات المتعلّقة باختفاء ابني، لكنّني حصلتُ على الدعم النفسي من مؤسسة جيان فقط، الأمر الذي منحني راحةً كبيرة بعد حضوري عدّة ورشات معهم، والآن أيضاً أشعر بالراحة بعد الحديث عن قصتي.

أما راحتي الحقيقية فهي أن يساعدني شخص ما في معرفة مصير ابني، حتى لو كان ميّتاً، فقد وصل بي الحال إلى أن أنهض من مكاني متى سمعتُ صوت بابٍ يُطرق أو يُفتح، ظناً منّي أنه قد عاد.

إنّ من قدموا من الدول الأخرى ليحاربوا في سوريا، ومن قاموا بخطف ابني، كان همّهم الأساسي هو تخريب هذه البلاد التي كانت آمنة ومليئة بالخيرات، وجعلوا منها بلاداً ممزَّقةً وراضخةً للغير.

برأيي العدالة غير موجودة؛ أين هي والأبرياء الذين لا يد لهم في شيء مما حدث، يختفون قسراً. نحن بحاجة لرحمةٍ تطرق باب قلوبهم ليعيدوا لنا أبناءنا.

أتمنى أن يعود ابني لعائلته، ولا أرغب شيئاً آخر البتّة؛ إنّ أطفاله بحاجته، وابنته الصغيرة تنتظره كثيراً. مورأ

لقد فقد الآلاف أبنائهم وأفراداً من عائلاتهم. أرغب من كلّ العالم أن يشعروا بنا وبألمنا، ما حلّ بنا يجب ألّا يحلّ بأحد آخر.

 


[1] يُقصد بالكرد هنا، السلطة الحاكمة لمناطق شمال شرق سوريا ذات الغالبية الكردية.

منشورات ذات صلة

اترك تعليقاً

* By using this form you agree with the storage and handling of your data by this website.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك عدم المشاركة إذا كنت ترغب في ذلك. موافق اقرا المزيد