مقدّمة:
بتاريخ 18 آذار/مارس 2018 دخل الجيش التركي رفقة فصائل “الجيش الوطني السوري” مدينة عفرين الكُردية السورية، بعد نحو شهرين من المعارك، ضمن العملية العسكرية التي أطلقت عليها “أنقرة” اسم “غصن الزيتون”، والتي أفضت إلى احتلال منطقة عفرين، وأسفرت عن مقتل عشرات المدنيين وتهجير أكثر من ثلاثمائة ألف، معظمهم من الكُرد.
منذ ذلك الحين تشهد منطقة عفرين حكماً تعسفياً مستمراً، وانتهاكات لحقوق الإنسان، لا حصر لها، من قبل القوات التركية وفصائل “الجيش الوطني السوري” التي تقودها وتدعمها “أنقرة”. تشمل الانتهاكات الموثقة، القتل، والاعتقال التعسفي والإخفاء القسري، و سوء المعاملة و التعذيب و النهب و مصادرة الممتلكات، إضافة إلى إجبار السكان الكُرد على ترك منازلهم، و عرقلة عودة السكان الأصليين، وممارسات التتريك و التغيير الديمغرافي.
تشير الشهادات والأدلة التي جمعتها “تآزر” إلى أنّ الانتهاكات التي تشهدها منطقة عفرين موجهة ضد المدنيين الكُرد، وهي تتماشى إلى حد كبير مع أهداف تركيا المعلنة المتمثلة في إضعاف الوجود الكُردي في شمال سوريا، وإنشاء حزام أمني أو منطقة عازلة بين حدودها الجنوبية والمناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال سوريا.
قبل احتلال منطقة عفرين من قبل تركيا في عام 2018، كان مئات الآلاف من سكانها الكُرد يحتفلون بعيد نوروز، في أحضان طبيعتها الخلابة، لكن منذ ست سنوات، لم يتمكن الكُرد المتبقون في عفرين من الاحتفال به، نتيجة القمع والانتهاكات المستمرة ضدهم من قبل فصائل “الجيش الوطني السوري”، التي عمدت في اللحظات الأولى من دخولها عفرين إلى تدمير نصب “كاوا الحداد”[1] –وسط المدينة– ذو الرمزية الكُردية، والذي يمثل التحرّر من الظلم، ويتم إحياء ذكراه سنوياً بإشعال موقد النار عشية عيد نوروز (عيد رأس السنة الكُردية، أو العيد القومي للشعب الكُردي).[2]
بعد عام من احتلال عفرين، عمد المجلس المحلي في عفرين، التابع للحكومة السورية المؤقتة/الائتلاف الوطني السوري المُعارض، إلى منع طقوس الاحتفال بعيد نوروز، قبل أنّ تسمح بها على مضض في الأعوام اللاحقة.
جريمة نوروز:
لكن نوروز العام الماضي جاء مختلفاً ومُلطخاً بالدم، حيث شهدت عشية نوروز، 20 آذار/مارس 2023، مقتل أربعة أشخاص كُرد من عائلة واحدة، وجُرح ثلاثة آخرين، نتيجة إطلاق النار عليهم مباشرةً من قبل مسلحي “جيش الشرقية” أحد مكونات “حركة التحرير والبناء” في الجيش الوطني السوري، ذلك أثناء احتفالهم أمام منزلهم في مدينة جنديرس في ريف عفرين، وإيقاد شعلة نوروز، وهو أحد أهم الطقوس التي يتبعها الكُرد سنوياً بمشاركة شعوب أخرى في سوريا وعموم المنطقة.
أسفر الهجوم عن مقتل ثلاثة أشقاء كُرد وأبن أحدهم، كما أصيب قريب آخر لهم بجروح خطيرة، وأصيب شخصان آخران بجروح طفيفة. الضحايا الأربعة الذين قُتلوا هم الأشقاء فرح الدين عثمان (43 عاماً)، ومحمد عثمان (42 عاماً)، ونظمي عثمان (38 عاماً)، بالإضافة إلى محمد عثمان (19 عاماً)، وهو نجل فرح الدين.[3]
تحدثت “تآزر” إلى ناجِ من ذوي الضحايا، وثلاثة شهود، ونشطاء من المنطقة، كما راجعت صوراً ومقاطع فيديو حول الجريمة، وصوراً للضحايا الذين قُتلوا، تُظهر إصابتهم بطلقات نارية متعددة في الصدر والوجه والرقبة، وخَلُصت إلى أن الهجوم على الضحايا كان بهدف منعهم من إحياء طقوس الاحتفال بعيد نوروز.
وقعت هذه الجريمة في وقت لم تتعافَ فيه مدينة جنديرس بعد، من آثار زلزال شباط/فبراير 2023 المدمّر، الذي راح ضحيته المئات من سكانها، حيث لاقى حوالي 1100 شخص مصرعهم في جنديرس وحدها نتيجة الزلزال، وتضررت آلاف المباني، مما ترك ما لا يقل عن ألفي عائلة دون مأوى، في ظل قيام العديد من الجماعات المسلّحة بتسييس وتحويل وجهة المساعدات وحرمان العديد من السكان المحليين منها.
تلا وقوع جريمة القتل احتجاجات شعبية عارمة، شهدتها بلدة جنديرس ومناطق أخرى في عفرين، ندد خلالها المحتجون بسلطات الأمر الواقع، كما طالبوا بخروج فصائل “الجيش الوطني السوري” من المنطقة، وتوفير حماية دولية للمدنيين، لوضع حد للانتهاكات التي ترتكبها تلك الفصائل.
وقد صدر بيان من قوات “الشرطة العسكرية” التابعة للجيش الوطني السوري، بتاريخ 21 آذار/مارس 2023، أعلنت فيه إلقاء القبض على ثلاثة من الجناة، ونشرت صورهم دون الإشارة إلى أسمائهم، وهم –وفقاً لما تحققت منه تآزر– عمر صالح الأسمر (مواليد عام 2000)، وحبيب علي خلف (مواليد عام 2004)، وبلال أحمد العبود (مواليد عام 2000).
حتى منتصف كانون الثاني/يناير 2024، أصدرت المحكمة العسكرية التابعة للحكومة السورية المؤقتة في مدينة الراعي شمال سوريا حكماً بالإعدام –مع وقف التنفيذ– على ثلاثة من المتهمين؛ وهم عمر الأسمر، حبيب خلف، وبلال العبود، بينما حكمت على “علي خلف” المدعو “أبو حبيب الخشام” بالسجن لمدة ثلاث سنوات، حكماً قابلاً للطعن بالنقد.
تعتمد المحاكم التابعة للحكومة السورية المؤقتة/المُعارضة القانون السوري المعمول به سابقاً في مقاضاة مثل هذه الجرائم، إلا أن أحكام الإعدام الصادرة عن تلك المحاكم (غير قابلة للتنفيذ)، حيث لم تحدد الحكومة السورية المؤقتة آلية قانونية للتوقيع على قرارات المحاكم وتنفيذ أحكام مثل الإعدام، كما كان معمول به سابقاً في سوريا، حيث تُحال الأحكام لرئيس الجمهورية والمفتي العام للتوقيع عليها.
بعد نحو عام على جريمة نوروز في عفرين، وتحديداً بتاريخ 13 آذار/مارس 2024، شهدت مدينة جنديرس بعفرين جريمة أخرى ضجّت بها وسائل الإعلام، حيث قُتل طفل كُردي “أحمد خالد معمو مده” (16 عاماً)، وتمّ رمي جثته في بئر ماء على طريق بريف جنديرس، وقد ربط ناشطون ما بين مقتل الطفل القاصر وجريمة قتل أربعة شبان من عائلة واحدة عشية نوروز 2023.
وبعد أقلّ من 48 ساعة من حادثة مقتل الطفل “أحمد مده”، تعرّض طفل آخر باسم “رودي محمد جقل” للطعن بالسكاكين، من قبل ملثّمين، وجرت الحادثة أيضاً في مدينة جنديرس.
اليوم، ومع حلول 20 آذار/مارس، يستذكر أهالي جنديرس الجريمة المروّعة التي أودت بحياة أربعة شبّان من عائلة واحدة، وعلى الرغم من صدور أحكام بالإعدام، مع وقف التنفيذ، بحقّ ثلاثة من الجناة، إلا أنّ عائلة “بيشمرك” التي ينتمي إليها الضحايا الأربعة لا تزال تنتظر العدالة والإنصاف لأحبائها، حيث يبدو أنّ حكم المحكمة يصعب تطبيقه، كما ترى العائلة أنّ المتهم “علي خلف، أبو حبيب الخشام” الذي حُكم بالسجن لثلاث سنوات، هو الجانِ والمحرض الرئيسي على الجريمة، لكنه نال حكماً مخففاً، على الرغم من تأكيد عدة شهود أمام المحكمة أنه قام بإطلاق النار بشكل مباشر على الضحايا والتحريض أيضاً على قتلهم، فضلاً عن فرار جانِ آخر هو “عبد الله عبد الحميد عبد الله” أحد المشاركين في إطلاق النار على الضحايا. ذلك في ظل تعرّض عائلة الضحايا لانتهاكات وضغوط مستمرة ومختلفة لطي الملف وإسقاط الدعوة عن الجناة.
في انتظار “العدالة”:
“منذ الجريمة التي ارتُكبت بحق عائلتنا عشية نوروز 2023، وإلى تاريخ هذا اليوم، ونحن نعيش حالة من الرعب والخوف، نتيجة التهديدات المستمرة التي نتلقاها من قبل جيش الشرقية، من أجل إجبارنا على إسقاط الدعوة”.
هذا ما قاله أحد أفراد “عثمان” المعروفة محلياً باسم عائلة “بيشمرك”، التي قُتل أربعة من أفرادها، نتيجة إطلاق النار عليهم بشكل مباشر، عشية عيد نوروز 2023، وكانت أيضاً من ضحايا الزلزال المُدمر، حيث تقيم في خيمة نصبتها بالقرب من منزلها، مكان وقوع الجريمة.
يقول أفراد من العائلة، تحدثوا إلى “تآزر”، إنّهم لا يزالون يدفعون ثمن تلك الجريمة، ويتعرضون لضغوطات عدة تهدف لإجبارهم على طيّ ملفّ القضية وإسقاط الدعوة، حيث يقول أحد أفراد العائلة في شهادته لـ “تآزر”:
“بعد صدور حكم المحكمة، قام فصيل جيش الشرقية –وبحجّة حمايتي– بإنشاء نقطة عسكرية/حاجزاً أمام منزلي، لا يبعد سوى مسافة 15 متراً عن المنزل، ذلك من أجل مراقبة تحرّكاتي ومعرفة من يقوم بزيارتي، تصوّر أن يقوم قاتلك بحمايتك!”.
ذكر الشاهد أنّ “جيش الشرقية” قد طلب منهم عبر وساطات عشائرية وشخصيات سياسية، وأخرى مقرّبة من الفصيل، أن يقوموا بإسقاط الدعوة وطيّ الملف، وأكّد الشاهد أنّه ورغم مضي سنة كاملة على “الجريمة” وصدور حكم الإعدام مع وقف التنفيذ ضد الجناة، إلا أنّهم لم ينالوا العدالة، حيث قال:
“بتاريخ 17 كانون الثاني/يناير 2024 كنا في جلسة النطق بالحكم في محكمة الراعي، وصدر حكم الإعدام بحقّ 3 أشخاص قالوا إنّهم مرتكبي تلك الجريمة –مع وقف التنفيذ– لكنّ القاتل الحقيقي علي خلف المدعو أبو حبيب الخشام تلقى حكماً مخففاً بثلاث سنوات، حكماً قابلاً للطعن، بحجة عدم كفاية الأدلة، على الرغم من تأكيد أربعة شهود أمام المحكمة أنه قام بإطلاق النار بشكل مباشر على الضحايا، وكذلك التحريض على قتلهم، أي أنه أحد المشاركين في القتل والمحرض الرئيسي على الجريمة، بينما لم يتم اعتقال عبد الله عبد الله، وهو أحد المشاركين في جريمة القتل، وقيل لنا أنه لازال فاراً”.
ولم تقتصر الضغوطات التي تعرض لها أفراد عائلة “بيشمرك” على الضغوطات النفسيّة والتضييق بالمراقبة الدائمة والتهديدات فقط، حيث ذكر الشاهد أنّ أحد أطفال عائلته تعرّض للضرب المبرّح بالعصي والقضبان الحديدية، بهدف بث الخوف بين العائلة ودفعها إلى التنازل عن حقها، حيث قال في شهادته:
“خلال تموز الماضي كان الضحية نظمي عثمان وعمره 15 عاماً عائداً من محلّ حلاقة تعود ملكيته للعائلة، حيث وقفت سيارة فان سوداء اللون ونزل منها 4 أشخاص، قاموا بضربه بالعصي والقضبان الحديدية، كما طعنوه في عدة أماكن من جسمه بشكل بسيط، وضربوه بأخمص السلاح على رأسه وقاموا بكسر يده اليمنى، وصل الضحية بعدها زحفاً إلى البيت، حيث قمنا بإسعافه إلى المشفى وبقي لمدة أسبوع حتى تحسنت حالته”.
فوضى السلاح وانعدام الأمان:
عانت مناطق عفرين بشكل كبير من آثار زلزال 6 شباط/فبراير 2023 المدمّر في سوريا، حيث تم تصنيف محافظة حلب، وبشكل أشد عفرين بأنّها إلى جانب إدلب من المناطق الأكثر تضرّراً. وقد وثّقت “تآزر” في تقرير مشترك، صدر بتاريخ 12 حزيران/يونيو 2023، مجموعة واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان التي رافقت وتلت عملية الاستجابة لزلزال 6 شباط/فبراير 2023 المدّمر في سوريا. وتنوعت تلك الخروقات والتجاوزات ما بين: منع أو عرقلة دخول المساعدات المُنقذة للحياة أحياناً، وتوجيه تمييزي في عمليات الإنقاذ من بعض أطراف النزاع أحياناً أخرى، والتمييز في توزيع المساعدات والاستيلاء عليها والاقتطاع منها والاتجار بها و/أو تحويل وجهتها. كم تمّ توثيق انتهاكات متعلقة بحقوق السكن والأرض والملكية.
وكانت “تآزر” قد وثّقت خلال العام 2023، مقتل 9 مدنيين/ات على الأقل، بينهم ثلاث نساء، على يد عناصر “الجيش الوطني السوري” في عفرين، وما لا يقل عن 336 حالة اعتقال، من بينها 15 طفل و 20 امرأة، لا يزال 268 شخص منهم/ن مختفين/ات قسرياً، فيما قال 62 شخصا من المفرج عنهم/ن إنهم/ن تعرّضوا للتعذيب.
كما شهدت منطقة عفرين، خلال عام 2023، حدوث أكثر من 10 حالات اشتباك/اقتتال داخلي بين فصائل “الجيش الوطني السوري”، إضافةً إلى وقوع 7 تفجيرات راح ضحيتها 10 مدنيين، بينهم 3 أطفال، وأدت إلى إصابة 33 آخرين، بينهم 6 أطفال.
[1] شخصية “كاوا الحداد” هي شخصية أسطوريّة كُردية، يُعتقد بأنّها رمز للخلاص من الطغيان، وبه ترتبط طقوس إشعال النار عشيّة عيد نوروز، وقد كان تدمير النصب من وجهة نظر الأهالي والناشطين/ات، أحد أوجه الانتهاك المعنوية ضد الشعب الكُردي.
[2] تعني كلمة نوروز بالكُردية “يوم جديد”، وهو عيد رأس السنة الكُردية، أو العيد القومي للشعب الكُردي، وشعوب أخرى في العالم. بحسب الأمم المتحدة، يحتفل ما يزيد عن 300 مليون شخص في جميع أنحاء العالم بيوم نوروز، باعتباره بداية العام الجديد، ذلك منذ أكثر من 3000 سنة، ولا سيما في آسيا الوسطى والبلقان وحوض البحر الأسود والشرق الأوسط والقوقاز وفي مناطق أخرى. ويضطلع هذا العيد، بوصفه تجسيداً لوحدة التراث الثقافي ولتقاليد تعود إلى قرون عديدة، بدور هام في تعزيز الروابط بين الشعوب على أساس الاحترام المتبادل ومُثل السلام وحسن الجوار. كما أن الأسس التي تقوم عليها تقاليد نوروز وطقوسه تجسد جوانب من العادات الثقافية والتاريخية لحضارات الشرق والغرب التي أثرت في الحضارات من خلال تبادل القيم الإنسانية.
[3] سبق أنّ كانت “تآزر” قد وثقت تعرض الضحية فرح الدين عثمان، للاعتقال والتعذيب بشدة على يد مسلحي “جيش الشرقية”، عقب دخولهم إلى منطقة عفرين في عام 2018، نتيجة مطالبته باستعادة منزله، الذي كان عناصر الفصيل قد استولوا عليه.