مقدّمة:
بتاريخ 11 حزيران/يونيو 2024، كانت امرأة سورية تحاول عبور الحدود إلى تركيا بحثاً عن حياة أكثر أماناً، لكنها وجدت نفسها في “مشفى الجزيرة” بمدينة رأس العين/سري كانيه بعد أنّ تعرضت للضرب على يدّ حرس الحدود الأتراك “الجندرما”. كانت المرأة حاملاً، وأدى ضربها على بطنها إلى تدهور حالتها الصحية.
تحدثت “تآزر” مع أحد المسعفين في المشفى؛ وقد أكد أنّ الأطباء اضطروا لإجراء عملية إجهاض للجنين بسبب الإصابات البالغة. خلال العملية، منعت الاستخبارات التركية الدخول والخروج من وإلى المشفى. وبعد انتهاء العملية، نُقلت الضحية إلى داخل الأراضي التركية رغم حاجتها إلى عناية طبية إضافية، في محاولة للتستر على الحادثة.
لم تكن الضحية سوى فرداً من مجموعة من طالبي اللجوء الذين تعرضوا للضرب والإهانة أثناء محاولتهم عبور الحدود -بطريقة غير نظامية- في قرية العزيزية غربي رأس العين/سري كانيه. أكد شهود عيان لـ “تآزر” أنّ أربعة ممن كانوا برفقتها؛ تعرضوا لضربٍ مبرح بأخمص السلاح، بالإضافة إلى اللكم والركل، مما أسفر عن كسور في اليد والرأس وإصابات متعددة. تمّ نقل هؤلاء الرجال أيضاً إلى داخل الأراضي التركية دون الكشف عن مصيرهم.
وثّقت “تآزر” 17 حالة اعتداء مشابهة على طالبي لجوء سوريون، بينها حالتا قتل؛ نتيجة إطلاق النار المباشر من قبل الجندرما التركية، في النصف الأول من عام 2024. كما تمّ توثيق حالات اعتقال وتعذيب لطالبي اللجوء من قبل “الجندرما” قبل تسليمهم إلى “الشرطة العسكرية” في الجيش الوطني السوري. من بين 145 طالب لجوء وثقت “تآزر” اعتقالهم خلال هذه الفترة، لا يزال مصير 36 شخص مجهولاً.
وقال مصدر عسكري ضمن “الجيش الوطني السوري” لـ “تآزر” إنّه شهد اعتقال مجموعة مؤلّفة من نحو 50 شخصا كانوا بصدد دخول مدينة رأس العين/سري كانيه بغية عبور الحدود إلى الأراضي التركية، لكن تمّ إلقاء القبض عليهم من قبل فرقة السلطان مراد، وقد أطلقوا سراح 44 منهم، بعد دفع غرامة تُقدر بـ 300 دولار أمريكي لكل شخص، فيما أبقوا على ستة أشخاص، موجّهين إليهم تهمة التعامل مع الإدارة الذاتية/قوات سوريا الديمقراطية، وتعرضوا لتعذيب شديد.
وقد شهدت منطقة رأس العين/سري كانيه اشتباكاً داخلياً بين “لواء شهداء بدر” وتجمع “أحرار الشرقية” بسبب خلافات حول نقاط العبور/التهريب على الطريق الدولي قرب استراحة الرزج، حيث أدى الاشتباك إلى مقتل عنصر وإصابة ثلاثة آخرين.
تؤكد الإفادات التي تحققت منها “تآزر” أن قادة في “الجيش الوطني السوري”، هم من يديرون عمليات الإتجار بالأشخاص وتهريبهم بطرق غير نظامية إلى تركيا، مقابل الحصول على المال، وقد وثقت الرابطة نشوب 4 حالات اقتتال داخلي بين تلك الفصائل، خلال النصف الأول من عام 2024، بسبب خلافات حول تقاسم واردات تهريب البشر إلى تركيا.
حالات القتل بالاستهداف المباشر لطالبي اللجوء، والاعتداء عليهم بالضرب والتعذيب، هي جزء من نمط وحشي ينتهجه حرس الحدود الأتراك، دون أن تتصدّى له الحكومة أو تحقق فيه بشكل فعّال. انتهكت تركيا التزاماتها في مجال حقوق الإنسان، بما في ذلك احترام الحق في الحياة والحرمة الجسديّة، والحظر المطلق للتعذيب أو سوء المعاملة. ينبغي على الحكومة التركيّة فتح تحقيق ومحاسبة المتورطين في هذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وضمان عدم تكرارها.
خلال عام 2023، وثقت رابطة “تآزر” مقتل 25 شخصاً، بينهم طفل، من طالبي اللجوء السوريون وإصابة 48 آخرين (بينهم نساء وأطفال)، نتيجة إطلاق النار بشكل مباشر عليهم من قبل قوات حرس الحدود التركية (الجندرما)؛ أثناء محاولتهم عبور الحدود إلى تركيا بطريقة غير نظامية، في مناطق شمال سوريا المحتلة من قبل تركيا. كما وثقت اعتقال 36 شخصاً، بينهم 7 أطفال، خلال العام نفسه، من قبل فصائل “الجيش الوطني السوري” المُعارض في منطقة “نبع السلام”، بسبب محاولتهم اللجوء إلى تركيا.
محنة محفوفة بالموت:
تتبنى الحكومة التركية “سياسة اعتداء مُمنهجة” لمنع عبور طالبي اللجوء السوريين إلى أراضيها، حيث يقوم عناصر “الجندرما” المنتشرون على طول الحدود بضرب وإهانة وتعذيب الأشخاص الذين يحاولون اجتياز الحدود بطرق غير نظامية، فضلاً عن استهدافهم بإطلاق النار بشكل مباشر، في مراتِ كثيرة، أدت إلى مقتل وإصابة العشرات، منذ بناء الجدار الحدودي.
بدأت الإجراءات الفعلية لمنع دخول السوريين إلى تركيا منذ أواخر عام 2015، حينما شرعت تركيا ببناء جدار حدودي بطول 911 كيلومتراً على طول الحدود التركية السورية، مؤلف من كتل إسمنتية يبلغ ارتفاع الواحدة منها أربعة أمتار. أرغمت تلك القيود طالبي اللجوء والمهاجرين السوريين على اللجوء إلى طرق عبور غير نظامية وخطرة، وأصبحوا ضحايا لمجموعات منظمة لتهريب البشر، وترتبط أغلب تلك المجموعات بأطراف النزاع المسيطرة في سوريا، أو يتم غض النظر عنها وعن نشاطاتها.
أصبح طالبو اللجوء السوريون ضحايا للقوات التركية والجيش الوطني السوري على حد سواء، حيث يتعرضون للاعتقال من قبل الفصائل أو للاستهداف بإطلاق النار من قبل “الجندرما” لمنعهم من العبور. تزامنت هذه الممارسات العنيفة مع ترحيل السلطات التركية لآلاف اللاجئين السوريين قسراً والتخطيط لإعادة أكثر من مليون لاجئ إلى الشمال السوري. وفقًا لجمعية اللاجئين في تركيا، فإن نسبة اللاجئين السوريين في تركيا هي الأقل منذ عام 2017، مما يشير إلى عمليات ترحيل قسرية واسعة النطاق.
تركيا مُلزمة باحترام مبدأ عدم الإعادة القسريّة، الذي يحظر إعادة طالبي اللجوء إلى مكان يواجهون فيه خطر الاضطهاد أو التعذيب أو حيث تكون حياتهم وحريتهم مهدّدة، بما في ذلك عبر رفض استقبالهم على الحدود دون النظر في مطالبهم.
وقالت هيومن رايتس ووتش في تقرير أصدرته بتاريخ 27 نيسان/أبريل 2023، إنّ حرس الحدود الأتراك يُطلقون النار عشوائيا على المدنيين السوريين على الحدود مع سوريا، ويُعذّبون ويستخدمون القوّة المفرطة ضدّ طالبي اللجوء والمهاجرين الذين يحاولون العبور إلى تركيا.
الاعتقالات التعسفية والابتزاز المالي، معاناة طالبي اللجوء السوريين:
بتاريخ 22 نيسان/أبريل 2024، تمّ اعتقال 50 مدنياً على يد فرقة “السلطان مراد” قرب “صوامع عالية” على الطريق الدولي M4، عندما كانوا يتجهون إلى الحدود السورية التركية للعبور طلباً للجوء. روى مصدر عسكري لـ “تآزر” أنّ 44 فرداً من المجموعة أُخليّ سبيلهم بعد دفع غرامة تُقدر بـ 300 دولار أمريكي لكل شخص، بينما تمّ الإبقاء على 6 منهم وتسليمهم للشرطة العسكرية موجّهين إليهم تهمة التعامل مع الإدارة الذاتية.
أكد الشاهد أن المعتقلين الستة لا يزالون قيد الاحتجاز، ويتعرضون لمختلف أساليب التعذيب خلال التحقيق. وأحياناً لا تكون هناك أسباب واضحة للاعتقال، حيث كان اثنان من هؤلاء من المناطق الخارجة عن سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. هذه الاعتقالات غالباً ما تكون نتيجة تهم شائعة مثل التعامل مع الإدارة الذاتية، بهدف تحصيل فدى مالية.
تشير المصادر الميدانية وشهادات الضحايا التي حصلت عليها “تآزر” إلى أن جميع عمليات التهريب تتم عن طريق وسطاء لهم علاقة مباشرة بالفصائل العسكرية. ومع ذلك، تحدث حوادث الاعتقال بين الحين والآخر، غالباً على الخط الفاصل بين قوات سوريا الديمقراطية ومناطق السيطرة التركية، وأحياناً على الحدود التركية بعد تعذيب وترهيب طالبي اللجوء من قبل قوات الحرس الحدودي التركية، أو إطلاق النار عليهم بقصد القتل والترهيب.
في حادثة منفصلة بتاريخ 8 أيار/مايو 2024، ألقى فصيل “أحرار الشرقية” القبض على 10 أشخاص بينهم امرأتان، واقتادوهم/ن إلى مقر الشرطة العسكرية في رأس العين/سري كانيه. لم يُعرف حتى الآن مصير هؤلاء المعتقلين. وقال مصدر عسكري لـ “تآزر” إنه تمّ مصادرة نحو 600 دولار وهواتف المرأتين الشخصية.
اعتُقلت المجموعة بالقرب من محطة الكهرباء على الطريق الدولي، وهم من مناطق دير الزور، الحسكة، وريف دمشق. تمّ وضع المرأتين في زنزانة منفصلة، بينما وُضع الآخرون، وعددهم 8 أشخاص، في زنزانة أخرى بانتظار التحقيقات.
قتل بالرصاص الحي:
في صباح يوم الإثنين، 4 آذار/مارس 2024، توجّه حميد الأحمد (اسم مستعار) إلى أرضه الزراعية في قرية “العزيزية” بالقرب من الحدود السورية التركية غربي رأس العين/سري كانيه، من أجل إصلاح محرك البئر، رفقة فريق الصيانة المؤلف من ثلاثة أشخاص. أثناء عملهم، شاهدوا مجموعة من 13 شخصاً يحاولون العبور إلى تركيا، ولكن حرس الحدود الأتراك (الجندرما) أطلقوا النار عليهم.
هرب 12 منهم باتجاه “حميد” ومن معه طلباً للمساعدة. قال لهم حميد إنه لا يستطيع تحمل مسؤوليتهم، لكن بعد أقل من نصف ساعة، وصلت دورية من “الشرطة العسكرية” بثلاث سيارات واعتقلتهم جميعاً. وعندما حاول أربعة منهم الفرار، انهالت الشرطة عليهم بالضرب الوحشي. كما أخذوا أرقام هواتف “حميد” وفريق الصيانة.
أحد أفراد المجموعة، شابٌ من دير الزور يُدعى عدنان الفيصل (35 عاماً)، قرر البقاء بالقرب من نقطة العبور، ونجا من الاعتقال، لكن يبدو أنّ الموت كان مصيره، وقال حميد حول ما حدث لـ “تآزر”:
“واصلنا عملنا في صيانة المحرك، وفي فترة العصر، سمعنا صوت إطلاق نار من جهة الحدود، بدا وكأنها أكثر من خمس طلقات. بعدها، رأينا شخصاً مرمياً بالقرب من الحدود، لكن لم نجرؤ على الاقتراب منه خشية أن نتلقى طلقات نارية من حرس الحدود”.
أحد عمال ورشة الصيانة اتصل بالشرطة العسكرية وأخبرهم عن الجثة. جاءت الشرطة بسيارة وأخذوا الجثة إلى المشفى الوطني في مدينة رأس العين/سري كانيه.
المسؤولية القانونية:
بناءً على ما ورد في هذا التقرير من حالات القتل والاعتقال والتعذيب، فأنها تعتبر وبدون أدنى شك، جرائم وانتهاكات واضحة للعديد من حقوق هؤلاء المدنيين، ضمن إطار القانون الدولي الإنساني[1] وكذلك القانون الدولي لحقوق الإنسان[2]، ناهيك عن انتهاك حقهم في اللجوء، وإرجاع من بقي منهم على قيد الحياة قسراً، إلى مناطق نزاع غير آمنة.
إن حالات القتل بالاستهداف المباشر والإعدامات غير القانونية على الحدود، تعتبر انتهاكاً واضحاً لحق هؤلاء الضحايا في الحياة وضمان عدم حرمانهم منها بشكل تعسفي[3]، وهو ما يكفله العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.
أما عن حالات الاعتقال التعسفي للأشخاص الذين حاولوا عبور الحدود إلى تركيا بطريقة غير شرعية، من قبل “الجيش الوطني السوري” المعُارض، وسوء المعاملة التي تلقاها هؤلاء المحتجزون، فهي بدون أدنى شك تعتبر تعذيباً، وبالتالي انتهاكاً واضحاً وجريمة تستوجب المحاسبة استناداً لاتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة[4] لعام 1984، علماً بأن جميع الناس، والمعتقلين منهم على وجه الخصوص لهم الحق في الحياة والسلامة الشخصية من جميع أشكال التعذيب والمعاملة اللاإنسانية، وفق ما يضمنه القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الانسان في حالات الحرب كما في حالات السلم.
بصفتها قوة احتلال، على السلطات التركية ضمان عدم قيام مسؤوليها ومن تحت قيادتهم في “الجيش الوطني السوري” باحتجاز أي شخص تعسفياً أو إساءة معاملته. السلطات التركية ملزمة بالتحقيق في الانتهاكات المزعومة وضمان معاقبة المسؤولين عنها بالشكل المناسب.
[1] اللجنة الدولية للصليب الأحمر، مصادر القانون الدولي الإنساني.
[2] الأمم المتحدة، أساس القانون الدولي لحقوق الإنسان.
[3] العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المادة 6، موقع الأمم المتحدة-حقوق الإنسان-مكتب المفوض السامي.
[4] اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة، أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984.